هزّت تصريحات خالد الأعيسر صورة وزارة يُفترض فيها القدرة على ضبط لغتها قبل ضبط خطاب الدولة. خرج الوزير إلى العلن كمن يطرق باباً بلا مفاتيح، مندّداً ببيانٍ نشرته وكالة السودان للأنباء (سونا) من دون علمه.
بدا المشهد أشبه بانعكاس فوضوي لخواء البنية الإعلامية الرسمية: وزير يكتشف بياناً حكومياً منسوخاً على الشاشات قبل أن يطّلع على محتواه، ووكالة رسمية تُصدر خبراً تطلب فيه من الصين تعطيل تقنيات طائرات مسيّرة، ثم تمحوه في صمتٍ مرتبك «صوناً للمصداقية». في قلب المشهد تشتُّت يوحي بخللٍ أعمق من مجرد خطأ تحريري.
لحظة الأعيسر تلك لم تكن عفو الخاطر. جاءت كشرارة تُضيء عطباً ممتداً منذ اندلاع الحرب: إعلام رسمي فقد بوصلته، مؤسسات تعمل بلا روح مشتركة، ولجنة إعلام عليا هجرت مقاعد الاجتماعات منذ زمن. تحوّلت الوزارة إلى غرفة صدى، والوكالة إلى جزيرة تتحرك بقرائن وتعليمات غامضة، فيما يظهر الأعيسر ليؤكد، من غير قصد، أن التنسيق غدا رفاهية ضائعة.
في خضم هذا الارتباك، رمى الأعيسر حجراً آخر في ماءٍ مضطرب، حين وصف صحافيي شمال دارفور بـ «المأجورين». رجال ونساء يعملون تحت القصف والجوع وانقطاع الاتصالات، يتحوّلون فجأة إلى متهمين على لسان من يُفترض فيه أنه حارس الكلمة الرسمية. لم تُطفئ اعتذاراته اللاحقة نار الأسى التي ولّدها تصريحه، فالمؤسسات التي تترنح تحت الحرب تحتاج إلى عناية لا إلى جروح إضافية.
كلمات أحد صحافيي دارفور، ويدعى معمر، كانت صدىً لوجع جماعي. كتب على صفحته على فيسبوك: “الناس هنا يموتون… وكل ما نطلبه هو أن تُسلّط الدولة الضوء على معاناتهم”. بدا ذلك التعليق كأنه مرثية لإعلامٍ نسي أنّ مهمته الأولى إنقاذ الحقيقة قبل إنقاذ صورته.
خيوط المأساة لا تقف عند حدود حادثة أو تصريح. ذلك أن الخلل يتجاوز الأعيسر إلى بنية كاملة لم تعد قادرة على الوقوف. منذ أبريل 2023، تلاشى الصوت الرسمي تحت ضجيج الحرب. بيانات تصدر في توقيت مضطرب، تصريحات تتنازعها غرف الحكومة في بورتسودان، وأحياناً غياب تام للردّ على أحداث تغيّر مصائر مدن بأكملها. في المقابل، تمددت المنصات الرقمية: غرف واتساب، قنوات تليغرام مجهولة، صفحات محلية على فيسبوك. سقطت «سونا» من مقام المصدر الأوحد للخبر إلى مجرد حسابٍ إضافي في زحام الحسابات.
هذا الانهيار لا يُختزل في خلل إداري أو تقني، بل ينتمي إلى قصة فراغ قيادي طويل. إعلامٌ يعيد إنتاج أخطاء حكومة بورتسودان نفسها: ارتباك في الرسائل، خوف من الاعتراف، ميل إلى التجميل حين تكون الحاجة ماسّة إلى المصارحة.
إخفاقات تتنقّل من الخرطوم حتى الفاشر، كظلّ ثقيل يتقدّم المشهد كلما أُريد له أن ينحسر. وبقدر ما تفقد الحكومة قدرتها على ضبط الأرض، تفقد قدرتها على ضبط روايتها، فتتوه الحقيقة بين صمت رسمي طويل وضجيج رقمي أسرع من المؤسسات.
مشهد الأعيسر، وهو يحوّل الوزارة إلى ستارة كثيفة تحجب ما تبقّى من ضوء، يكشف عن حكومة تتهاوى روايتها كما تتهاوى سيطرتها على الأرض. كل تفصيل عابر يتحول إلى شاهد إضافي على هشاشة منظومة تستهلك نفسها قبل أن تُقنع أحداً.
وفي بلد يقف فيه خمسة وعشرون مليون إنسان على حافة الجوع، يغدو انهيار الإعلام جزءاً من المأساة لا تعليقاً عليها. تتعثر الدولة حين تتعثر لغتها؛ تفقد قدرتها على الطمأنة حين تفقد قدرتها على قول الحقيقة. ويجد المواطن نفسه وحيداً أمام ظلامٍ لا يبدده بيانٌ بلا مرجعية، ولا تصريحٌ يأتي بعد فوات الوقت.
جوهر الأزمة يتجاوز المؤسسات والإجراءات. فالفوضى تتكلم أعلى من كل الميكروفونات الرسمية: دولة تبحث عمّن ينطق باسمها، بينما الناس يبحثون عمّن ينصت لأنينهم.





