تحديات على ذاكرة الوطن(36).
بقلم: عبدالعزيز ضاوي
في سجل الوعي الوطني، تمر الأوطان بلحظات تُختبر فيها قدرتها على حماية ذاكرتها من العبث، وصون رموزها من محاولات التشويه. ومؤخرًا، طالع السودانيون منشورًا على مواقع التواصل الاجتماعي للناشط السياسي عبد الرحمن عمسيب، المنادي بما يُعرف بـ”دولة النهر والبحر”، زعم فيه أنّ الأمير الراحل عبد المنعم منصور، أمير قبيلة حَمَر بإقليم كردفان، ليس منحدرًا من القبيلة التي قادها لعقود، بل من أصولٍ أخرى.
ورغم ما في هذا الادعاء من إسفافٍ واضح وتزييفٍ للحقائق، إلا أنّ دلالته الأعمق تكشف عن نزعةٍ عنصريةٍ مرفوضةٍ تحاول تقسيم المجتمع السوداني على أسسٍ واهية من النسب والجهة والانتماء. هذه النزعات، التي يروّج لها بعض من يفتقرون إلى الفهم العميق لمعنى المواطنة، تمثل خطرًا على الوعي العام، لأنها تبني حضورها على نفي الآخرين، لا على الإسهام في بنائهم.
ومن المعروف أن عبد الرحمن عمسيب ليس غريبًا عن نشر مواقف تمثل أيقونات للأفكار العنصرية والتحريضية، فقد تناول في مقالات سابقة موضوعات حساسة بطريقة مستفزة، مستهدفًا بعض المجتمعات مثل مناطق دارفور وكردفان، وهو أيضًا أول من قاد حملات التشكيك في ولاء بعض المجموعات بعد أحداث تحرير الفاشر، والتي أظهرت فيها قوات جيش التأسيس قدرتها على حماية المناطق وتأمين المدنيين. وقد أثارت مواقفه السابقة جدلًا واسعًا، إذ أظهرت نمطًا من التحيز والإساءة الرمزية للمجتمعات الأصلية، بما يعكس محاولة مستمرة لبث الفرقة والنفور بين مكونات الوطن.
يبدو جليًا أنّ هذه الحملة لم تكن سوى ردّة فعل على الموقف الموحّد والمشرّف الذي اتخذته مجتمعات دار حَمَر في دعمها لتحالفٍ وطنيٍّ يسعى إلى تأسيس دولة العدالة والمواطنة، بعيدًا عن الانقسامات الضيقة. فحين عجز البعض عن مجاراة هذا الموقف الشريف، لجؤوا إلى محاولات التشويه والطعن في النسب، ظنًّا منهم أن التقليل من شأن الآخرين يرفع من قدرهم.
لكن الحقيقة أن هذه الأساليب لا تسيء إلا إلى أصحابها، إذ تكشف عن محدودية الوعي وضيق الأفق، في مقابل اتساع صدر القبائل الأصيلة التي لم تعرف في تاريخها سوى الكرامة والانفتاح والاحترام المتبادل.
إنّ قبيلة حَمَر، بما تحمله من تاريخٍ ضاربٍ في جذور كردفان والسودان، ليست بحاجة إلى أن تثبت نسبها أو تاريخها، فالأفعال تشهد والأجيال تحفظ. وقد جسّد الأمير الراحل عبد المنعم منصور – رحمه الله – قيم القيادة الحكيمة والخلق الرفيع، وظل رمزًا للتماسك والاحترام، لا داخل قبيلته فقط، بل في وجدان كل من عرفه من أبناء السودان.
وإذا كان البعض يحاول اليوم العبث بذاكرة الوطن من خلال بثّ الفرقة بين مكوناته، فإن الوعي الجمعي للسودانيين كفيل بإفشال هذه المحاولات. فالتاريخ لا يحفظ أسماء من شتموا، بل من بنوا؛ ولا يكرّم من فرّقوا، بل من جمعوا.
إنّ التحدي الحقيقي على ذاكرة الوطن هو أن نحافظ على أصالتنا في وجه التشويه، وعلى وحدتنا في وجه التحريض، وعلى أخلاقنا في وجه الانحدار. وهنا يظهر معدن أبناء حَمَر، الذين يردّون بالحكمة لا بالمهاترة، وبالثبات لا بالانفعال.
فالكرامة لا تُستمد من الانتقاص من الآخرين، بل من رفعة النفس وصدق الموقف. وذاكرة الوطن لا تنحني أمام الضجيج، لأنها محفوظة بأفعال الرجال ووفاء الأجيال.





