منعم سليمان
في اللحظة التي كان فيها وفد الجيش يغرق في عناده ويقوّض مفاوضات واشنطن الرامية إلى وقف إطلاق النار وإقرار هدنة إنسانية، كانت قوات الدعم السريع تمضي في الميدان بثبات وهدوء، تستعيد أمس مدينة بارا الاستراتيجية في شمال كردفان، وتُحكم اليوم قبضتها على قيادة الفرقة السادسة مشاة في الفاشر.
ذلك التزامن لم يكن مصادفة عسكرية عابرة، بل مرآة فاضحة لأزمة جيشٍ مختطف الإرادة، تُسيّره الحركة الإسلامية وتتحكم في بوصلته. فقد تغلغل التيار الإسلامي في نسيج قراره حتى غدت المفاوضات أداة للمناورة لا وسيلة لوقف نزيف الوطن.
إنه التيار الكيزاني العفن الذي يرى في الهدنة خيانة، وفي الاعتراف بالخصم سقوطًا، وفي السلام خطرًا على حلم العودة إلى الحكم. وهكذا صاغ موقف الجيش على نحوٍ متصلبٍ يقدّس الحرب، مهما كانت كلفتها الإنسانية والسياسية الباهظة.
الفاشر ليست مدينة عادية على خريطة الحرب، بل العقدة العسكرية والإدارية الأهم في غرب السودان، والمفتاح الذي تتحكم به الجغرافيا في مصير الميدان. وسيطرة قوات الدعم السريع عليها تعني أنها باتت تمسك فعليًا بزمام الإقليم كله، وأن الجيش فقد عمقه الغربي وخسر ربع مساحة البلاد دفعة واحدة.
وهكذا تكون دارفور قد تحوّلت إلى قاعدة عمليات مستقلة، تنبض بخطوط إمداد مفتوحة واتصال ميداني لا يملك الجيش سبيلاً إلى تعطيله.
إن استعادة بارا وسقوط الفاشر ليسا حدثين ميدانيين منفصلين، بل ناقوس خطرٍ استراتيجي يقرع أبواب الخرطوم. فقد اختلّ توازن الجبهات اختلالًا جذريًا؛ فبدل أن يضغط الجيش من الغرب، أصبح مضطرًا إلى الدفاع عن الوسط والعاصمة، في وقتٍ تتآكل فيه قدراته اللوجستية وتنكمش مساحات حركته.
وبسيطرة الدعم السريع على الفاشر، تتجه أنظاره شمالًا نحو الولاية الشمالية عبر طرقٍ صحراويةٍ مترامية وضعيفة التحصين، وجنوبًا نحو الأبيض لتثبيت قبضته على كردفان، تمهيدًا للزحف شمالًا وشرقًا نحو الخرطوم.
وإذا أحكم الدعم السريع سيطرته على مدينة الأبيض – شريان الوسط – فستغدو العاصمة مكشوفة من ثلاث جهات: من الغرب عبر كردفان، ومن الجنوب عبر النيل الأبيض، ومن الداخل عبر الجيوب النشطة في أحشائها.
الخرطوم، حينها، لن تُهزم عسكريًا فقط، بل ستحاصر استراتيجيًا؛ تختنق تحت ضغط الجبهات المتقاربة وانسداد الإمداد، وتتحول إلى مدينةٍ أموات تُدار بالخوف لا بالحكم.
أما معنويًا، فإن سقوط الفاشر يمثل ضربة قاصمة لهيبة الجيش، إذ يفقد آخر عاصمة ولائية كبرى في الغرب، ويخسر معها رمزيته التي يقدمها كقوة وطنية جامعة. وسيؤدي ذلك إلى تفكك وحدات ميدانية أخرى، وربما التحاق بعض القيادات بالدعم السريع، بعد أن أدركت أن المعركة خاسرة قبل أن تبدأ.
هذان التطوران – الميداني والسياسي- يضعان قيادة الجيش أمام امتحان أخلاقي عسير. فبينما تتساقط المدن وتتزايد معاناة المدنيين، يجد الجيش نفسه محاصرًا بين ضغط الميدان وضغط (الجماعة) التي تمسك بخيوط القرار في بورتسودان.
في المقابل، تمضي قوات الدعم السريع بعد أن فهمت الرسالة الكيزانية جيدًا: أن القوة على الأرض هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الكيزان ومن يقفون خلفهم.
إن من يرفض قلائد الإحسان، يضع على عنقه سلاسل الامتحان.





