لطالما لعبت القبيلة في دارفور وكردفان دوراً مركزياً في تشكيل الفضاء العام ، ليس فقط باعتبارها مكوناً اجتماعياً ، بل كإطار شامل للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية ، في غياب الدولة أو حضورها المشوه تحولت القبيلة إلى الحاضنة الطبيعية للناس تضطلع بحماية الأفراد ، وتنظيم مواردهم ، والوساطة في نزاعاتهم ، بل وتحديد مساراتهم السياسية ، هذا الدور جعلها رافعة كبرى لوجود المجتمع لكنه في الوقت نفسه وضعها في موقع متقدم يفوق طبيعتها الاجتماعية فأصبحت بديلاً عن الدولة لا مجرد مكمل لها.
لقد كان غياب التنظيمات السياسية الحديثة والأحزاب الفاعلة في هاتين المنطقتين سبباً جوهرياً في استمرار القبيلة كإطار جامع وملاذ حتمي ، فبينما كان أبناء أقاليم أخرى يجدون مساحات سياسية للتعبير من خلال الأحزاب والنقابات ، ظل أبناء دارفور وكردفان محكومين بواقع لا يتيح لهم سوى الانخراط في الهياكل القبلية ومع الزمن ، ترسخت القناعة بأن حماية المصلحة القبلية هي الضمان الوحيد للوجود الجماعي ، في مواجهة التهميش السياسي والاقتصادي الذي عانت منه هذه الأقاليم تاريخياً وهكذا تحولت العصبية إلى أداة دفاع ، لكنها أيضاً غدت عائقاً يحول دون تشكل وعي وطني جامع.
إن هذه الإشكالية المركبة تضعنا أمام ضرورة التفكير في مشروع تأسيس جديد يقوم على المواطنة لا على الولاءات الضيقة ، تأسيس يتجاوز العصبية القبلية بوصفها مرجعية عليا ، ويعيد صياغة الفضاء العام عبر بناء أحزاب وتنظيمات سياسية حديثة قادرة على استيعاب التطلعات الجماعية لأبناء دارفور وكردفان وغيرهما من الأقاليم ، فهذا التحول ليس خيار سياسي بل هو شرط وجودي لبقاء السودان دولة قابلة للحياة ، إذ لا يمكن لدولة أن تستمر إذا ظلت الهوية القبلية أعلى من هوية المواطنة ، ولا يمكن لوطن أن يتماسك إذا ظلت العصبية القبلية هي الإطار المهيمن على الوعي السياسي.
التكوين السياسي والاجتماعي على أساس القبيلة والعشيرة يمثل واحدة من أعقد المعضلات التي واجهت السودان منذ بواكير الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة ، إذ كرس هذا النمط لبنية مشوهة في الوعي الجمعي تقوم على الولاء الضيق لا على الانتماء الوطني الأشمل ، خطورة هذا المسار لا تكمن فقط في إعاقة بناء الدولة الحديثة بل في إعادة إنتاج حلقات متواصلة من الانقسام والتشرذم التي تفرغ أي مشروع وطني من مضمونه الحقيقي وتجعله عرضة للانهيار كلما اصطدمت المصالح القبلية بمصالح الدولة.
إن الخروج من هذا الحيز الضيق إلى رحاب أوسع يتطلب التحول من الانتماء القبلي والإثني والجغرافي إلى بناء التنظيمات السياسية الجامعة التي تؤسس على البرامج لا على الأنساب ، وعلى الرؤى لا على الولاءات ، وعلى المشروعات الوطنية لا على الحسابات المحلية ، فالحياة السياسية لا تستقيم في بيئة تتنازعها العصبيات القبلية ، لأن السياسة في جوهرها فن إدارة الاختلاف وتوظيف التنوع لصالح الجماعة الوطنية ، بينما القبيلة في إطارها التقليدي تسعى لتغليب الذات وحماية مصالحها الخاصة.
المشكلة الرئيسية التي تكبل المشهد السوداني ليست في غياب الكفاءات أو ضعف الموارد وحدها ، بل في هيمنة التحيزات القبلية التي تحول مؤسسات الدولة إلى ساحات صراع وتوزيع محاصصات ، بدل أن تكون أدوات لتحقيق العدالة والتنمية ، هذه التحيزات جعلت الانتماء القبلي معياراً للتوظيف والتوزيع ، وحرمت المجتمع من بناء مؤسسات فاعلة تقوم على مبدأ المواطنة والمساواة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الإصلاح يبدأ من إعادة تعريف وظيفة الإدارة الأهلية ، فهذه المؤسسة التاريخية التي لعبت دوراً مهماً في حفظ التوازن الاجتماعي بحاجة ماسة إلى قوانين ولوائح تنظم مهامها وتعيدها إلى إطارها الطبيعي بوصفها آلية اجتماعية لا سياسية ، لتعمل على فض النزاعات وبناء السلم الأهلي بعيداً عن صراعات السلطة وتوازناتها ، إن تنظيم هذا الدور القانوني للإدارة الأهلية سيحميها من التسييس ، وفي ذات الوقت يفتح المجال أمام القوى السياسية لبناء مؤسساتها الحديثة بعيداً عن إرث العصبية.
التجارب المقارنة تؤكد أن تجاوز العصبية ممكن ، فدول عديدة كانت غارقة في البنى القبلية لكنها تمكنت عبر إصلاحات قانونية ومؤسسية من تأسيس حياة سياسية مدنية ، وبنت تنظيمات عابرة للهويات الضيقة هذه النماذج تقدم للسودان دروساً ثمينة مفادها أن التحول لا يتم بالصدفة ، وإنما عبر مشروع وطني مقصود يستند إلى التشريعات ، ويعزز ثقافة المواطنة ، ويخلق حوافز اقتصادية واجتماعية للاندماج الوطني.
وعليه فإن المسار المطلوب في السودان يجب أن يقوم على جملة من الخطوات ، أولها سن تشريعات واضحة تمنع استغلال الانتماءات القبلية في مؤسسات الدولة ، وثانيها إعادة تنظيم الإدارة الأهلية في إطار اجتماعي بحت ، وثالثها تشجيع نشوء تكتلات سياسية جديدة تنبني على البرامج الوطنية لا على الولاءات المحلية ، هذه التكتلات لا يكفي أن ترفع شعار تجاوز القبلية ، بل عليها أن تقدم برامج اقتصادية واجتماعية حقيقية تعالج أزمات الناس وتستقطبهم بعيداً عن العصبية.
إن الخروج من أسر القبيلة ضرورة وجودية لبقاء السودان كدولة موحدة وقابلة للحياة ، إن لم يُكسر هذا القيد ستظل الأزمات تتوالد جيلاً بعد جيل ، وسيبقى السودان رهيناً لصراعات لا تنتهي ، أما إذا وُضع مشروع وطني جامع يقوم على المواطنة والعدالة ، وينظر إلى التنوع باعتباره مصدراً للثراء لا كسبب للتفكك ، فإن الطريق إلى المستقبل سيفتح أبوابه لقيام دولة مستقرة ومجتمع متماسك قادر على النهوض





