عبد الرحمن الكلس
وُلد أمجد فريد من رحم الخراب، في حيٍّ متورمٍ على أطراف الخرطوم/ بحري، كان والده عينًا للنظام لا تغفو، تراقب الشعب كما يراقب السجان جثثًا تتنفس. رجل لم يكن يُحبّ القانون، بل يحب أن يُفسّر غيابه. خُلق ليكون مرآة لديكتاتور، ومرآته مائلة.
أما والدته، فقد درست القانون لا لتحمي به الضعيف، بل لتخيط به عباءة الطغاة. كانت النيابة العامة بيتها، والعدالة فيها غريبة الوجه واليد واللسان، لا يُفتح بابها إلا لمن حمل مفاتيح الولاء.
نشأ أمجد وسط هذا المزيج العفن من القمع والمحاباة، فأين له أن يتشرب الطهر في مستنقع كهذا؟
طفل لم يعرف الحنان إلا من قبضات يده، يقال إنه كان ينهال ضربًا على أمه، كأنما يغرس كراهيته للضعف في جسدها، ويقال إن الجيران صمتوا، لأن الصوت إن خرج حينها، اعتُبر خيانة أمنية، فوالده ضابط الأمن المايوي كان كريهاً ومخيفاً .
درس الطب في “مؤسسة كيزانية خاصة”، ترفع لافتة العلم وتدس الخرافة في المقررات. كانت الجامعة تشبه حانة فكرية، لا يجتمع فيها إلا أبناء السلطان، واللصوص، والباحثون/ات عن تذاكر مرور إلى جنات الإرهاب، أو غربات لا تعود.
تخرّج ولم يُعرف له معدل، ولم تُعرف له مهارة، سوى أنه خرج بلقب “دكتور” كما يخرج الساحر من قبعته أرنبًا. لكن الأرنب هنا كان ميتًا.
دخل السياسة كما يدخل الطفيلي جسدًا عليلًا: بلا خريطة، بلا فكر، بلا نَفَسٍ أخلاقي. تنقّل كريشةٍ في مهبّ مصلحته، من يسارٍ لا يفهمه، إلى وسطٍ لا يحتمله، حتى ألقى بنفسه في يمينٍ وجد فيه مرآته: الوصول بلا كفاءة، والحضور بلا معنى.
كان يُفصل من كل موضع كما يُفصل الزائد من البدن، لكن شيئًا ما في دمه، في جيناته، في تاريخه العائلي، كان يُعيده دومًا، مثل لعنة لا شفاء منها.
تزوّج من امرأة تُشبه الحلم الذي لا يخصه. نصفُ جمال، ونصفُ تاريخٍ نضالي، حاول أن يستعير مجدها النضالي العائلي كما يستعير الأعمى عيون غيره. ولمّا عجز عن امتلاكها، امتلك عنفًا.
ضربها كما ضرب أمه، ضربها كأنه يضرب ماضيه الذي لا يبلغه، وانتهى زواجه في محكمةٍ نطقت بما لم يستطع هو نفيه: أنه رجل لا يصلح إلا للظل، حيث لا يُرى الألم بوضوح.
ثم أتت الثورة. ولم يشارك فيها إلا كمن يلوّح للقطار من بعيد، ثم يقفز إليه من الخلف، ويصرخ في الناس: “أنا السائق!”
دخل مجلس الوزراء كـ”مساعد للمساعد”، ثم زيّن بطاقة اسمه بلقبٍ لا يخصه: “مستشار لرئيس الوزراء”.
كذب تافه وصغير، لكنه وجد أرضًا خصبة: لا صحافة تحقق، ولا ذاكرة جماعية تَنبُذ.
امتدت يده إلى السفارات والمنظمات، لا بصفته، بل بصفاقته. كان دليلًا لمن لا يعرف الخرطوم، وجاسوسًا لمن يريد أن يعرف أكثر مما يُقال .. ومن هذا الباب دخل أيضاً إلى قادة الأجهزة الأمنية، ينقل من هناك وهناك..
بعد الانقلاب ، ازدهر حضوره كما يزدهر العفن في العراء. اقترب من الاستخبارات، وصار ظِلًا للمقدم “عمرو” الذي لم يُعرف له من الكفاءة إلا وجهٌ حسن وعلاقة غامضة ومريبة بالجنرال البرهان!!
وفي لعبة الدماء والعائلات، قرر الجنرال أن يختار دمية في هيئة رئيس وزراء، ولم يجد أقرب من كامل إدريس، عم أمجد، والذي يشبهه أكثر مما يشبه والده.
وهكذا، عاد أمجد إلى الواجهة، لا بجهده، بل بدمه. صار يسير بجانب عمه، كأن التاريخ يعيد كتابة نفسه، لكن بخطٍ أكثر شناعة.
يقول العارفون إن أمجد ليس استثناءً في عائلته، بل هو الخلاصة: كذبةٌ تمشي، وزيفٌ يبتسم.
ويقول من رأوه في بورتسودان إنه صورة عمّه في شبابه، وإن كامل هو نسخة أمجد في شيخوخته.
وقال صعلوكٌ حكيم من أطراف الحيّ :
“قد يجمع الله الإنتهازيين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا”