في خضم التهافت الدولي على صياغة حلول للأزمة السودانية، تأتي الدعوة الأمريكية لعقد مؤتمر في واشنطن بوصفها محطة جديدة تحمل وعوداً براقة، لكنها تعيد إنتاج ذات الاختلالات البنيوية التي وسمت المبادرات السابقة ، فالمشكلة لا تكمن في نوايا المنظمين ، بل في آلية اختيار من يمثل السودان في مثل هذه المنابر، حيث يُختزل المشهد السياسي في نخب بعينها، وتُقصى المكونات الفاعلة عن الحضور، مما يجعل من المؤتمر امتداداً لعقود من الإقصاء الذي فجر الأزمات ابتداءً.
يتجلى هذا الخلل بوضوح في دعوة تحالف “صمود” للمشاركة دون غيره من التحالفات النشطة، مثل تحالف “قمم” والتنظيمات الشبابية والكيانات المهنية والمدنية التي تشكل في الواقع نبض الحركة الشعبية في السودان ، فـتحالف صمود على محدودية انتشاره وتمثيله لا يعبر عن الكتلة التاريخية العريضة التي تقف في قلب المعاناة والمقاومة ، بل هو نتاج اصطفافات نخبوية تتحرك في دوائر مغلقة ، لا تمتد جذورها إلى الشارع ، إن منح صفة “التمثيل السياسي” لكيان كهذا يعمق الفجوة بين الواقع السوداني والمشهد الدولي، ويجعل من المؤتمر مساحة نخبوية مغلقة تصوغ مصير بلد بأكمله دون تفويض شعبي.
وفي خلفية هذا الحضور المتحيز يبرز التدخل المصري كعامل مؤثر ، حيث تسعى القاهرة لإعادة عناصر من جيش الحركة الإسلامية إلى واجهة الترتيبات السياسية، تحت ذريعة الشمول والواقعية ، لكن هذه الخطوة لا تُفهم إلا بوصفها محاولة لإعادة تدوير بنية السلطة القديمة التي لفظها الشارع ، واستعادة نفوذ إقليمي يتعارض مع آمال السودانيين في بناء دولة مدنية متحررة من إرث الانقلابات والمحاور.
ما يُعمق الإشكال هو استمرار المجتمع الدولي في التعامل مع الأزمة السودانية بذات الأدوات القديمة ، انتقاء من “يجلس إلى الطاولة” وفق حسابات خارجية، لا بناءً على قاعدة تمثيل شعبي حقيقي ، وهكذا تتحول المؤتمرات الدولية إلى فضاءات مأزومة، لا يُسمع فيها صوت الغالبية السودانية ، بل يُعاد تدوير ذات الوجوه ، وتُقصى القوى الحية من شبابية، ونسوية، ومدنية، تمثل جوهر التحول الديمقراطي الذي قاتل الناس من أجله.
غياب العدالة التمثيلية لا يُنتج حلولاً، بل يكرّس وهم التسوية ، فالسودانيون وهم السواد الأعظم، لم تصلهم “صمود” ولم يُستشاروا فيمن يتحدث باسمهم، بل يراقبون من الهامش مشهداً يُدار باسمهم من قِبل قوى لم تخض معهم معركة الصمود اليومي في وجه الجوع والنزوح والموت المجاني ، هذا الغياب ليس خطأ عرضياً، بل نتيجة مباشرة لاحتكار النخبة لتمثيل السودان في المحافل الدولية.
أمام هذا المشهد تبرز ضرورة أن تتحرك التحالفات الشبابية والتنظيمات السياسية والمجتمعية المستقلة، مثل “تحالف قمم” وسواه، لتكسر احتكار الصوت، وتخاطب العالم بلغة سودانية حقيقية، لا تمر عبر فلاتر الخارج ولا تصدر بتوكيل من أحد ، آن الأوان لأن يُسترد المعنى السياسي من قبضة النخبة، ويُعاد توجيه بوصلة الحل نحو الشعب نفسه، لا نحو ممثليه المُنتقين بعناية من غرف مغلقة.
المستقبل لا يُبنى في مؤتمرات تُدار خلف الكواليس، بل في صوت يُعبر عن الجميع، وتمثيل يتجاوز الفئات، ويعيد للسودانيين حقهم في صياغة مصيرهم ، فأي تسوية لا تبدأ منهم، وتنتهي إليهم، لا تعدو أن تكون فصلًا جديداً من الأزمة نفسها، ولو ارتدى ثوب “الحل”.