منال علي محمود
manal002002@gmail.com
في مشهد سوداني تزداد تعقيداته يوما بعد يوم، برز قرار إسناد قيادة متحرك (الصياد) للفريق شمس الدين الكباشي كحدث محوري يستحق الوقوف عنده، ليس فقط باعتباره تكليفا عسكريا في زمن الحرب، وإنما كإشارة سياسية تتقاطع فيها حسابات الجيش، وتطلعات الاسلامويين، ومآلات مستقبل السودان بعد الحرب.
الكباشي، القادم من جبال النوبة، يشكل نموذجا نادرا في تركيبة المؤسسة العسكرية، التي طالما سيطر عليها مركز البلاد وخياراته. صعوده للقيادة العليا كان ينظر إليه على أنه بداية انفتاح المؤسسة على التنوع الجغرافي والاجتماعي، غير أن الوقائع تكشف أن هذه (الفتحة) صارت مصدر قلق متزايد للتيار الاسلاموي المتغلغل في مفاصل الجيش، والذي يعمل بجد لإعادة تشكيل المشهد لصالحه.
الكباشي بين شرعية الهامش وخطيئة الاعتدال
تاريخ الكباشي داخل الجيش ليس بلا شوائب. فقد كان أحد صناع انقلاب 25 اكتوبر 2021، ما جعله لفترة جزءا من دائرة القرار التي واجهت الحراك المدني بعنف. لكنه في لحظة فارقة، وقع منفردا على اتفاق المنامة مع الدعم السريع، في مسعى يفهم منه محاولة لوقف الحرب، أو على الأقل خلق مسار تفاوضي خارج عباءة البرهان والاسلامويين.
هذا التصرف، وإن اختلفت حوله التقييمات، إلا أنه أحدث شرخا داخل قيادة الجيش، وعرض الكباشي لهجوم شرس من تيار الاسلاميين، الذين وجدوا في الاتفاق ذريعة لتجريمه، ووصفه بالخيانة، رغم أن دوافعه قد تكون مرتبطة بمحاولة تجنيب البلاد مزيدا من الانهيار.
متحرك (الصياد): وسيلة عسكرية أم خطة لإقصاء سياسي؟
تكليف الكباشي بقيادة متحرك (الصياد) يثير أكثر من سؤال. فالمتحرك في تجاربه السابقة لم يحقق نتائج تذكر، بل شهد انسحابات وفشلا ميدانيا متكررا. ما يجعل إعادة تفعيله، وإسناده لجنرال بهذا الثقل، أمرا لا يخلو من دلالات خطيرة.
هل يراد للكباشي أن يستهلك ميدانيا في معركة عبثية؟
أم أن المطلوب هو إخراجه من المسرح السياسي والعسكري بهدوء، من دون تكاليف مواجهة علنية؟
الإجابة الأقرب للمنطق: أن الاسلامويين، القلقين من ترتيبات ما بعد البرهان، يسعون لتحييد كل من قد يشكل تهديدا لطموحاتهم في إعادة تمكين سلطتهم، والكباشي في طليعة هؤلاء.
من المعروف في أعراف الجيوش حول العالم، أن القيادات العليا لا تُزج في خطوط المواجهة الأولى، بل تُحمى وتُحتفظ بها لتنسيق العمليات الكبرى وصيانة تماسك القيادة.
لكن ما حدث مع الكباشي يُخالف هذه القاعدة، ويكشف أن الأمر لم يكن تكليفا طبيعيا، بل جزءا من عملية إبعاد منهجية، أو على الأقل اختبار صعب يراد له أن يستهلكه معنويا وسياسيا وحتى جسديا.
ترتيبات ما بعد البرهان: الهامش في الواجهة؟
تلوح في الأفق معادلة خطرة، في حال غياب البرهان عن المشهد، بفعل الوفاة أو العزل أو حتى التسوية. عندها، وبالتراتبية الرسمية:
سيتولى مالك عقار، ممثل النيل الأزرق، رئاسة مجلس السيادة
وسيصبح الكباشي، حال بقائه في الخدمة، القائد العام للقوات المسلحة
هذه المعادلة تعني انتقال مركز القرار السيادي والعسكري لأول مرة إلى شخصيتين من الهامش. وهو أمر كفيل بإرباك الحسابات القديمة، لا سيما حسابات الاسلامويين الذين طالما نظروا للهامش كمورد للبنادق لا للقرار.
من هنا، يمكن فهم الحراك الساعي لإبعاد الكباشي عن المشهد:
إما بتوريطه في معركة خاسرة، أو بتمهيد الطريق لتصفيته من خلال قوى معادية يمكن تحميلها المسؤولية.
وتشير بعض القراءات إلى أن تعيين وزير دفاع من أبناء النوبة مؤخرا، قد يكون خطوة احتياطية لامتصاص الغضب في حال اختفاء الكباشي المفاجئ.
تسييس الجيش وتجريم الهامش: نهج متكرر
رغم أن الكباشي ينتمي جغرافيا للهامش، إلا أن أحد أسباب بقائه طويلا داخل الجيش وصعوده في هياكل القيادة، يعود إلى ارتباطه المبكر بالحركة الاسلاموية، وتماهيه في لحظات كثيرة مع توجهات المركز. هذا الانتماء غير المعلن، أو الذي تم تسويقه كـ(انضباط عسكري)، ساعد في تحييده عن الشكوك التي لاحقت كثيرين من أبناء الهامش داخل المؤسسة.
لكن مفارقة الكباشي تكمن هنا بالضبط:
فحين اتخذ أول موقف يمكن اعتباره مستقلا، بتوقيعه المنفرد على اتفاق المنامة مع قادة الدعم السريع، كخطوة نحو وقف الحرب أو على الأقل فتح مسار تفاوض، انقلب عليه التيار ذاته الذي رعاه وصعده، وبدأت ماكينة التشكيك والتجريم تستهدفه بحدة.
فقد وصفته حملات الاسلامويين بالخائن، وتبرأ البرهان من الاتفاق، رغم أن الخطوة نفسها لم تخرج عن نطاق المبادرة السياسية والعسكرية التي ادعت القيادة العليا الانفتاح عليها مرارا.
بهذا، يصبح الكباشي ليس مجرد (ضحية لصراع جغرافي)، بل حالة مركبة تعبر عن تناقضات المشروع الاسلاموي نفسه، وعجزه عن التعايش مع أي شكل من أشكال الاستقلال أو الاعتدال، حتى إن أتى من داخله.
الاسلامويون اليوم ليسوا مجرد تيار خارجي يضغط على الجيش من الخارج، بل لديهم وجود فعلي في غرف القرار، عبر ضباط سابقين أعيد تمكينهم، وتيارات أمنية تتحرك بتنسيق مباشر مع واجهات الحزب القديم.
هذا النفوذ يجعلهم قادرين على توجيه المؤسسة العسكرية لخدمة مشروعهم السياسي، بما في ذلك تصفية أو إقصاء أي صوت يخرج عن الخط العام، خاصة إذا كان من خارج المركز.
ما يميز حالة الكباشي هو التوقيت:
البلاد على حافة التحول، والحرب أوصلت السودان إلى نقطة اللاعودة في كثير من الملفات.
واستمرار استغلال الجيش في تصفية الحسابات ينذر بانفجار داخلي، لن يكون الدعم السريع طرفه الوحيد، بل ستدخله مكونات اجتماعية جديدة، تشعر اليوم أن أبناءها يستخدمون كوقود لمعارك لا تعبر عنهم، ولا تخدم مستقبلهم.
مآلات محتملة وفرصة للوعي
قد يكون الرهان على الاقتتال الداخلي داخل الهامش هو الخيار الأخير في أجندة الإسلامويين، لكن الواقع تغير.
لم يعد هذا وقت الاحتراب الأهلي، ولا الظرف يسمح بتكرار تجارب التضحية بمكونات لحماية مركز السلطة.
هناك أصوات وعي جمعي تشكلت بقوة تجاوزت الحكومات، ورفعت سقف التطلعات نحو وطن ينعم بالسلام والعدالة.
احتمالية نقل الحرب إلى عمق الهامش، أو اللعب على تناقضاته الجغرافية والقبلية، تصطدم اليوم بدرجة من الوعي العام، وبعطش السودانيين الحقيقي إلى بناء دولة تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات، لا على نهج (فرق تسد) أو (اضرب الهامش بالهامش ليسلم أهل الاستفادة).
هذا الوعي قد لا يظهر في خطب السياسيين، لكنه يتجلى في وجدان الناس، وفي رفضهم المتنامي لاستخدامهم وقودا لحروب لا تمثلهم.
في الختام
قد ينجح الاسلامويون في إقصاء الكباشي، وقد لا ينجحون.
لكن المؤكد أن نهجهم القائم على تسييس الجيش، وتجريم رموز الهامش، واستغلال أدوات الدولة في تصفية الخصوم، هو الخطر الحقيقي على ما تبقى من الدولة السودانية.
فالهامش اليوم لا يطلب صدقة ولا شفقة، بل يطلب شراكة.
وإذا استبعدت هذه الشراكة بالقوة، فقد لا يأتي الرد عبر البيانات، بل عبر بنادق جديدة، أشد عزما، وأكثر شرعية.