بقلم كاربينو
في قلب العتمة السياسية التي يعيشها السودان اليوم، يظهر محمد سيد الشهير بـالجاكومي كمحرك جديد لمعادلة الصراع، ولكن ليس من بوابة الحل أو الإجماع الوطني، بل عبر طريق شائك يتوسل السلاح والانتماء الإثني والمناورة الجيوسياسية لبناء مشروعهم الخاص ، الحديث المتداول عن تجنيده لما يزيد عن خمسين ألف شاب من أبناء الشمال، وتدريبهم في معسكرات مغلقة داخل الأراضي الإريترية، لا يمكن قراءته إلا باعتباره نقطة تحول خطيرة في مسار الأزمة السودانية، حيث يتحول رجل السياسة إلى قائد ميليشيا، والمشروع الجهوي إلى كيان عسكري مغلق، تحت غطاء جيش دولة النهر والبحر.
لكن الأدهى أن هذا المشروع لا ينبع من فراغ ، إنه ليس مجرد انحراف شخصي لرجل سياسي طموح، بل يمثل امتداداً لتخطيط أكبر ابتدأه عبد الرحمن عمسيب عبر التنظير الجهوي وخلق مفاهيم الانفصال المقنع، ثم وجده عبد الفتاح البرهان أرضاً خصبة لتطبيقه عملياً عبر تجريف مؤسسات الدولة وتحويل الجيش إلى أداة مركزية لاحتكار السلطة في يد نخبة بعينها ، واليوم يأتي الجاكومي كمجند ميداني لهذا المشروع، يستكمل حلقة التجييش عبر خطاب شعبوي جهوي، يروج لكيان شمالي مغلق يختصر الوطن في إثنية وموقع.
تسمية جيش النهر والبحر في ذاتها ليست بريئة؛ بل تحمل بُعداً رمزياً خفياً يوحي بكيان سياسي/جغرافي بديل، مستقل، له رموزه وتصوراته عن السلطة والانتماء والعدو ، لم يعد الجاكومي يتحدث عن وحدة السودان أو إصلاح المركز، بل عن إقليم متمايز، مسلح، يتأهب للانفصال متى ما توفرت الظروف ، إنه يعيد إنتاج عقلية الدولة داخل الدولة، كما جُربت في تجارب الانفصال السابقة، ولكن هذه المرة في النسخة الشمالية، وبشعارات مضادة لفكرة التعدد والوحدة الوطنية.
الخطير في الأمر أن هذا الجيش الجاري تشكيله لا يخضع لأي شرعية دستورية، ولا يمارس فعله من داخل الحدود الوطنية، بل من دولة جارة هي إريتريا، بما يفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية، واستخدام الأراضي السودانية مسرحاً لصراعات إقليمية بالوكالة ، كيف يمكن لعاقل أن يتغاضى عن هذا الخرق الفاضح للسيادة الوطنية، في وقت ينادي فيه ذات الشخص بالسيادة الكاملة ويشن حملات ضد أي وجود أجنبي على الأرض السودانية؟ التناقض هنا ليس عفوياً، بل مقصوداً، وهو جزء من هندسة خطاب مزدوج، يحشد العاطفة الجهوية من جهة، ويبرر الارتباطات الخارجية من جهة أخرى.
تحركات الجاكومي الأخيرة اتسمت بالعداء المتزايد للمكونات السياسية والعسكرية الوطنية كافة، فمن تصعيده ضد قوات الDM، إلى افتعال الخصومة مع القوات المشتركة في بورتسودان، ثم استعداء المكونات السودانية الأصيلة ، وصولاً إلى توتر علاقاته مع الخارج، حتى مع جنوب السودان التي كانت ملاذه السياسي ذات يوم ، في كل الاتجاهات يصنع الجاكومي عدواً، ويستثمر في لغة الاستقطاب، ليؤسس نفسه كمظلة حصرية لتيار جهوي مغلق، يرى في نفسه التمثيل الحقيقي للشمال ، إنه خطاب بالغ الخطورة، يعيد إنتاج مقولات المركز والهامش ولكن من منطق الانغلاق لا الانفتاح.
وفي خلفية هذا المشهد، يتسلل خطاب ترويجي انفصالي، يستثمر في مشاعر الظلم التاريخي، ولكنه لا يقترح معالجات وطنية شاملة، بل يعمق القطيعة ويزرع الألغام ، عندما يتحول التهميش إلى أداة لصناعة ميليشيا، بدلاً من أن يكون حافزاً لبناء دولة عادلة، فإن النتيجة الحتمية هي الحرب الأهلية ، وها هو الجاكومي يجر الشمال نحو سيناريو مرعب، يهدد بتحويله إلى ساحة قتال جديدة، لا تختلف عن دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق.
الواضح أن المشروع المسمى جيش النهر والبحر لا يسعى لتقوية السودان، بل لتفكيكه، ولا يرنو إلى حفظ الأمن، بل إلى احتكار العنف، ولا يبني على مؤسسات الدولة، بل يراهن على انهيارها ، هذا ليس عملاً سياسياً شرعياً، بل هو إعلان مبكر عن نية الانفصال بقوة السلاح، وبشراكة إقليمية مشبوهة، ستجر البلاد نحو منزلق خطير يصعب التنبؤ بعواقبه.
اليوم يقف السودانيون أمام لحظة فارقة إما أن يُواجه هذا المشروع بالحسم السياسي والقانوني والمجتمعي قبل أن يستفحل، وإما أن يدخل السودان دوامة جديدة من التفتت، تنهي ما تبقى من جغرافيته ووحدته وتاريخه المشترك ، السكوت عن مشروع الجاكومي ليس حياداً، بل تواطؤ مع تفكيك الوطن، وشرعنة لظهور ميليشيا أخرى في بلد أنهكته الحروب والانقلابات والمغامرات الفاشلة.
وإذا كان البعض يظن أن هذا الجيش الجهوي سيحمي مصالح الشمال، فعليه أن يتذكر أن كل مشروع مسلح خارج إطار الدولة سرعان ما ينقلب على أهله، ويجعل من حواضنه وقوداً لصراع لا يرحم، كما يحدث للمشتركة اليوم ، ما نحتاجه ليس تجييشاً إثنياً، بل مشروع وطني عادل، يعترف بالمظالم ويعالجها بالمؤسسات لا بالبندقية ، أما طريق الجاكومي فهو طريق تفكيك السودان باسم الدفاع عنه.