عمار سعيد
مقال تحليلي
تعيش القاهرة لحظة مراجعة حاسمة في تعاملها مع الملف السوداني، وقد بات واضحاً أن رهانها الطويل على الجنرال عبد الفتاح البرهان يقترب من نهايته، بعد أن تحوَّل الرجل إلى عبء إقليمي، تُثقله تحالفاته الإسلاموية وسجله المتعثر في الميدان. فالتقارير المتزايدة عن استخدام الجيش السوداني وحلفائه لأسلحة محرمة دولياً، وارتكابهم مجازر على أساس الهوية العرقية والدينية، وضعت مصر في موقف دبلوماسي شديد الحرج أمام شركائها الدوليين. والأدهى من ذلك أن بعض هذه الفظائع ارتكبها عناصر سلفية متشددة تتبع تنظيمات كانت مصر قد خاضت معها حرباً شرسة لعقود طويلة.
المصريون الذين ظلوا يراقبون الميدان عن كثب، يرون الآن جيش البرهان يتقهقر في معظم الجبهات، بينما تتقدم قوات الدعم السريع بمرونة ميدانية وقدرة تكتيكية لافتة. أما الرسائل التي بعث بها قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” للقاهرة – والتي حملت نبرة تصالحية وعقلانية، تتحدث عن حماية المصالح المشتركة وعدم الانجرار إلى صراعات أيديولوجية – فقد وجدت فيما يبدو آذانًا أكثر انتباهاً في قصر الاتحادية مما كان عليه الحال قبل شهور.
هذا الانفتاح المحتمل بين القاهرة والدعم السريع ليس حباً في حميدتي، بقدر ما هو تعبير عن براغماتية مصرية معتادة، تضع الأمن القومي ومصالحها الحدودية والاقتصادية فوق أي اعتبارات أيديولوجية. مصر تدرك أن استمرار دعمها لبرهان يعني الغرق في مستنقع دولي ملوّث بملفات حقوقية، وأزمة إنسانية متفجرة، وتحالفات إسلاموية قد تُرتد عليها مستقبلاً، خصوصاً أن رموز النظام البائد بدأت تعيد تموضعها عبر بوابة الجيش وتعيد إنتاج خطاب يهدد بتكرار تجربة ما قبل 2019.
من هنا، فإن أي تقارب مصري مع قوات الدعم السريع سيكون تحولاً دراماتيكياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد يُعيد ترتيب المشهد الإقليمي، ويفتح الباب أمام موازين جديدة للقوة داخل السودان. خاصة إذا ما نُظر إلى الدعم السريع كطرف صاعد يتمتع بديناميكيات ميدانية، وكمكون غير إيديولوجي يمكن التفاهم معه سياسياً بعيداً عن الإرث الثقيل للإسلام السياسي.
إن السؤال الأهم الآن لم يعد: هل تقف مصر مع الدعم السريع؟ بل أصبح: كم تبقى من الوقت قبل أن تعلن القاهرة موقفاً جديداً ينسجم مع الواقع المتغير على الأرض؟
الوقائع تقول إن المركب يغرق… ومصر كعادتها، لا تركب سفناً لا تصل.