بقلم: فاطمة لقاوة
في الوقت الذي تُفرغ فيه النخب المركزية جُعبتها من الخطابات الرنانة عن الوطنية والتضحيات، وتُروّج لتعيين الفريق حسن داوؤد وزيرًا للدفاع بوصفه انتصارًا “رمزيًا” للهامش، يغيب السؤال الحقيقي: هل تغيّر منطق السلطة في السودان؟ أم أن المركز النيلي يُعيد إنتاج نفسه من خلال أدوات جديدة وبوجوه من ذات الجغرافيا المستلبة؟
لعلّ المقارنة بين الفريق داوؤد والجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تُقدِّم مدخلًا لفهم المعادلة الأعمق.
الأول: ابن الدلنج الذي ظل في حظيرة الجيش الرسمي، ونُفِض عنه الغبار مؤخرًا فقط ليُقدَّم كرمز “بطولي” ضمن مخطط دعائي لصالح معسكر بورتسودان.
والثاني: راعي الإبل القادم من أقاصي دارفور، الذي حوّله الوعي، لا الرتبة، إلى مشروع سياسي وعسكري حاول كسر احتكار المركز للسلطة والثروة.
لم يأت حميدتي من مؤسسات الدولة، ولم تتبنّه النخب المركزية يومًا،بل جاء من الهامش كصدى لصرخاته،حاول المركز احتواءه، استثمر فيه حين كان يقاتل في أدغال كردفان ودارفور وجبال النوبة، ثم تآمر عليه حين خرج من عباءته، وأعلن مشروعًا لتحرير الدولة من سطوة الأقلية النيلية التي حكمت السودان منذ الاستقلال.
كان صادقًا حين اعترف أنه لم يُولد سياسيًا، بل صنعته الظروف، وكبر وعيه مع التجربة والخذلان، وأعلن بجرأة أنه يريد بناء دولة تُدار من كل السودان، لا من الخرطوم وحدها.
لهذا تآمرت عليه كل النخب: من الأحزاب الطائفية إلى الجنرالات المترهلين، ومن التكنوقراط المتسللين إلى أقلام النفاق.
لم يغدر حميدتي بالشعب،و لم يبع الهامش ليُرضي صفوة الخرطوم،وحين انكشفت اللعبة، قرروا مواجهته، فاندلعت حرب ما كان لها أن تبدأ، لولا خوف المركز من زحف الوعي، وخشية الطبقة النيليّة من أن تفقد امتيازها التاريخي.
اليوم، وفي ذروة هذه الحرب، تعود ماكينة المركز لإنتاج “رموز بديلة”.
يتم تعيين الفريق داوؤد، ابن الدلنج، وزيرًا للدفاع، ويُقدَّم بصفته “قاهر من سموهم في غفلة من الزمان بالمليشيا”، في خطاب مشبع بالتحشيد العاطفي والبطولة المُعلّبة.
أي بطولة في حصار القيادة العامة لعامين بينما الخرطوم تحترق، والمناطق المهمشة تُباد، ونساء دارفور وكردفان يُقتلن بالقاذفات والمسيرات أمام أنظار العالم؟
أي بطولة في ترديد عبارات جوفاء بينما القرار الحقيقي يُدار من جنرالات بورتسودان وأعوان الكيزان الذين هربوا من الميدان إلى الفنادق والقصور المُحصنة؟
إن ما يحدث هو محاولة بائسة لاستدراج أبناء الهامش – وخاصة أبناء كردفان – إلى “محرقة جديدة”.
يُراد للفريق داوؤد أن يكون واجهة ناعمة لحرب يديرها البرهان وكتائب الإسلاميين المتخفين خلف عباءة “السيادة”، ويُراد للناس أن ينسوا أن من قاد الحرب هم من تآمروا على الثورة، وقتلوا شباب القيادة، ومزّقوا ما تبقى من خريطة الوطن.
إن نخب الشمال النيلي لم تغيّر نهجها منذ الاستقلال،لا تزال تمارس نفس اللعبة: حين يخافون على سلطانهم، يستدعون أبناء الهامش ويزينونهم بالألقاب، ثم يرمون بهم في فوهة البنادق.
فعلوها مع أبناء جنوب السودان في الجيش،ومع مجاهدي دارفور وكردفان في التسعينيات،ومع الجنجويد في مرحلة البشير،وها هم يفعلونها اليوم مع جنود القيادة العامة، ومجتمعات كردفان والنيل الأزرق.
لكن الجديد أن وعي الهامش قد كبر،وأن الجُرح المفتوح لم يعد يداويه الكلام المنمّق،وأن الصبر على تكرار التاريخ بات خيانة.
شباب الدلنج اليوم، كما شباب نيالا والفاشر والدمازين والفولة ولقاوة ، يعرفون أن المعركة ليست بين حميدتي وداوؤد، بل بين مشروع وعي وطني صادق، وآلة مركزية لا تتوقف عن إعادة إنتاج القهر بوجوه من لحمنا ودمنا.
الهامش لا يحتاج لمن يموت باسمه، بل لمن يعيش من أجله.
لا نريد جنرالات “أوفياء للمركز” يرفعون علمًا فوق الرماد، بل قادة يصنعون لنا وطنًا لا يُضطر فيه أبناؤنا لحمل السلاح من أجل حماية سلطة لا تُمثلهم.
الجنرال داوؤد قد يكون ضابطًا شجاعًا، لكنه ليس مشروعًا للهامش، طالما ظل أداة في يد من يحكمون السودان بعقلية الخوف والاحتقار.
“حميدتي” بكل التعقيدات والأخطاء التي صاحبت هذة الحرب ، فقد حاول – بصدقٍ لا يُشترى – أن يكسر حلقة السيطرة المركزية، وأن يُعطي للهامش اسمه وحقه ومكانه.
الوعي اليوم ليس أن نختار بينهما، بل أن نُدرك من يقف معنا ومن يستخدمنا،فدماء الفقراء ليست رخيصة، ولا مستقبل الهامش لعبة في يد عصابة تختبئ في بورتسودان وتحكم بالوهم والرصاص.
《حميدتي وداوؤد ! ! وجهان في مرآة الوطن المخطوف》
ولنا عودة بإذن الله
الأربعاء،٢٥يونيو/٢٠٢٥م