——————————————
بقلم: عمار نجم الدين
“لقد أطلقنا ساعة الصفر!”
قالها الناطق الرسمي لجيش البرهان يوم 15 أبريل 2023، وكأنه يروي ملحمة تحرير، لا إعلان حرب أهلية شاملة. بشّرنا بأن الحسم سيتم خلال أربع ساعات، لكننا الآن ندخل عامنا الثالث في حرب لم تُنتج سوى الخراب والشتات والانهيار الوطني، وبدل أن نرى نهايتها، صارت تعيد تشكيل السودان على أساس الانقسام والدم.
لم تكن تلك “الساعة” سوى لحظة انطلاق كذبة كبرى. فالحرب لم تُشنّ لحماية الدولة كما زُعِم، ولا لإنقاذ الوطن من الانهيار كما ادُّعي. بل كانت خطوة مدروسة لاستعادة السلطة بالقوة، بعد أن فشلوا في ذلك عبر السياسة. حرب قادها تحالف قديم من بقايا الإسلاميين، متدثرين بلباس الجيش، ومدعومين بإعلام يوزّع الوطنية بالتقسيط، ويصادر صكوك الانتماء لمن يشاء.
لم تمضِ سوى أسابيع، حتى تحولت الحرب من صراع نفوذ إلى حرب هويات مكتملة. بين مركزٍ يرى نفسه ظلّ الله في السودان، وبين هامشٍ قرر أخيرًا أن الكرامة تستحق أن يُقاتل لأجلها. والمثير للسخرية أن من بدأ الحرب لم يكتفِ بالسلاح، بل استدعى أطرافًا من خارج الحدود، فحوّلها إلى حرب إقليمية بامتياز. دخلت أطرافٌ بدعوة رسمية، بعضها أعلن حضوره صراحة، وبعضها آثر الصمت التكتيكي، لكنها جميعًا كانت جزءًا فاعلًا من مشهد الخراب.
بعض الدول، وبكل وضوح، رأت أن الوضع في السودان يمس مصالحها الحيوية، فتدخلت بما تراه مناسبًا لحماية حلفائها أو رؤيتها الاستراتيجية. طائراتٌ ضربت البنية التحتية، واستخباراتٌ تحركت، ومعسكرات تدريب فُتحت داخل السودان وعلى حدوده، لا سيما في إريتريا: في “حدش معسكر”، و”ربدة”، و”هيكوتا”، و”بورنتو”، إضافة إلى مركز استخباري وتجندي في “تسني”. كل ذلك جرى “على عينك يا تاجر” في دولة يحكمها دكتاتور لم يبتسم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.
لم يكن الأمر سرًا، بل كان مشهدًا مكشوفًا تؤكده صور الأقمار الصناعية والتقارير الرسمية. والسؤال: هل كنتم تظنون أن خصومكم سيقفون متفرجين؟ أن تُدار الحرب من طرف واحد؟ أن من يقاتل عليه أن يربط يديه خلف ظهره حتى لا يُغضب المركز؟
واليوم، يخرج علينا الناطق الرسمي لجيش البرهان، يشكو أن الدعم السريع استعان بحلفاء إقليميين، ويتحدث عن السيادة وكأنها اختراع جديد!
هل نسيتم أنكم أول من فتح الباب؟
هل تظنون أن اللعب مع الكبار متاح لكم فقط؟
هل تعتقدون أن الاستنجاد حق حصري لكم وحدكم؟
يا سيدي، كما يقول إخواننا في مصر: “اللي عايز الدح ما يقولش أحّ.”
وكما نقول نحن في السودان: “الداير النكاح، ما برفض الحمل.”
الحرب ليست لعبة بلا قواعد، لكنها حين تبدأ لا تُدار بالدموع والتباكي. ومن قرر خوضها عليه أن يعلم أن خصومه سيفعلون ما بوسعهم للبقاء والانتصار. ومن رفع شعار “حرب الوطن”، عليه أن يتحمل تبعاتها كاملة. لا تبكوا لأن خصمكم يرد الصاع صاعين. لا تندبوا لأنهم تحالفوا كما تحالفتم. لا ترفعوا شعار السيادة وأنتم أول من دهسها بالأحذية.
هذه ليست حرب “تأسيس” وحدها، بل معركة مكتملة ضد مشروع السودان القديم . هي معركة بين من يقاتل ليستعيد السودان، ومن يقاتل ليستعيد امتيازاته. بين من يحلم بوطن جديد، ومن يريد استعادة دولة استعلائية تُدار من مكتب واحد، ومزاج واحد، وعرق واحد.
ولهذا نقول، وبكل وضوح، لكل من يقف في وجه آلة القهر: لا تترددوا. فعّلوا تحالفاتكم. حرّكوا جبهاتكم. انفتحوا على كل من يشارككم القناعة بأن هذه الحرب يجب أن تنتهي بانتصار مشروع السودان الجديد. دعوا من يشتكون اليوم يتذكروا من أشعل الحريق أولًا، ومن استدعى أول المرتزقة، ومن فتح الباب لتدويل الصراع. فلا أحد يُلقي بالحجارة ثم يختبئ خلف جدار الأخلاق المصطنعة.
النصر لا يأتي بالرجاء، ولا تُكسب المعركة بالنوايا الطيبة. النصر يُنتزع، ولا يُوهب. ومن أراد السلام الحقيقي… عليه أن ينتصر أولًا.