خالد كودي، بوسطن
في خضم التراجيديا السودانية المستمرة، تعود ظاهرة “الكشة” ككابوس متجدد، لا كحادثة معزولة في الزمن. ففي الخامس من يونيو 2025، أعلنت المباحث المركزية بولاية الخرطوم عن “خطة استباقية” لـ”إزالة الظواهر السالبة” في سوق صابرين، مستخدمة خطاباً أمنياً أقرب إلى إعلان حرب ضد مواطنين عزّل، منه إلى ممارسة تُعنى بصون النظام العام. بهذا الإعلان، أعيد إلى الواجهة إرث ممارسة أمنية قديمة الجذور، أعيد إحياؤها في عهد جعفر نميري، حين كانت “الكشة” سياسة رسمية للدولة. لم تكن آنذاك مجرّد جولات شرطية عابرة، بل مشروعاً عنصرياً ممنهجاً يستهدف ذوي “السحنات المختلفة”، “الوجوه الغريبة” ، و”أبناء الغرب وجبال النوبة” حاليا، لتحويلهم إلى وقود مجاني لحروب لا تعنيهم ولا يدركون دوافعها. كانت شاحنات الاعتقال أداة لإفراغ المدن من أجساد الهامش، وإعادة توزيعهم قسرياً في جبهات القتال أو في معسكرات الخدمة القسرية للضباط. اليوم، إذ تعود هذه الممارسة تحت مسميات أمنية جديدة، فإنها تؤكد أن بنية القمع العنصري في الدولة السودانية لم تُفكك، بل تجدّد خطابها وتعيد إنتاج أدواتها.
اليوم، تعود هذه الممارسة مغلفة بلغة زائفة عن “منع الجريمة” و”تجفيف منابعها”، في عملية تُفصح عن استمرار بنية أمنية عنصرية تعيد تعريف المواطنة وفق السحنة، الموقع الجغرافي، والانتماء الطبقي. تكشف هذه اللغة عن الدولة ككيان يُمارس تمييزاً مؤسسياً لا يخفيه بل يعلنه بلا حرج.
وقد جاء في التقارير المصاحبة، التي اجتاحت وسائط التواصل الاجتماعي، صورة صادمة لطفلين نحيلين، تتدلى أمامهما أكياس بلاستيكية ثبتت على المشهد تركيبًا متعمدًا، في محاولة لإلباس المشهد إيحاءً إجراميًا. وُضعت العصبة على أعينهما كما يفعل مع كبار الجناة، لكن ارتعادهما البادي في تفاصيل أجسادهما المتعبة ينطق بمظلمتهما. في مفارقة صارخة، يظل مجرمو سرقة المليارات من نخب الدولة بعيدين عن عدسة الفضيحة، بينما يُعرض هؤلاء الأطفال، فاقدو الحول والقوة، كأكباش فداء تعويضًا عن فشل الأجهزة الأمنية.
هذا المقال يسعى إلى تفكيك الفلسفة السياسية الكامنة خلف هذا السلوك، انطلاقًا من مفاهيم الدولة العنيفة، المفارقة الأخلاقية، وإنتاج الهوية عبر القمع والتجريم. إنها محاولة لإعادة طرح سؤال: أي دولة هذه التي تستبطن في ممارساتها مفهومها الخاص لـ “العدو الداخلي”؟ وهل يمكن أن يكون هناك وطن مشترك تحت ظل هكذا دولة؟
أولاً: الدولة كجلّاد — حين تتحوّل الحماية إلى آلية إبادة ناعمة:
في تحليلها الكلاسيكي للعنف السياسي في كتابها «في العنف»، تميّز حنة آرندت بين السلطة والعنف: فبينما تقوم السلطة على شرعية تخلق الطاعة طوعاً، يُمارس العنف حين تفقد الدولة هذه الشرعية، فلا يعود أمامها سوى فرض الطاعة قسرًا. في السياق السوداني، كما في ظاهرة “الكشة” التي رافقت نظام جعفر نميري في ثمانينيات القرن الماضي، وما نشهده اليوم في شوارع الخرطوم، تتجلى هذه القاعدة بوضوح: حين تفقد السلطة السودانية شرعيتها الأخلاقية والاجتماعية، لا تجد سوى السلاح الأمني وسياسات الجسد القمعية أداةً لإعادة إنتاج هيمنتها الهشة على المجتمع.
لكن ما هو أعمق من ذلك، هو أن “الكشة” – في بنيتها وخطابها – ليست مجرد تجاوز أمني، بل آلية استعمار داخلي. إنها امتداد لممارسات الدولة الكولونيالية التي سعت إلى ضبط “المجال الاستعماري” داخل الوطن ذاته، كما حلّل أشيل مبيمبي في دراسته “نيكروبولتيكس”
(Necropolitics)
أي سياسات الموت التي تمارسها الدولة ضد الفئات التي تُصنَّف كـ”غير مرغوب فيها”. وعبر إحياء “الكشة”، تعلن الدولة السودانية، بلا مواربة، أن أبناء الهامش – ومن ضمنهم الأطفال – ليسوا مواطنين كاملي الحقوق، بل مخزوناً بيولوجياً يُدار أمنياً، يُساقون إلى الجبهات في زمن الحرب، يُستخدمون كدروع بشرية أو خدم للضباط، ويُركلون إلى هامش المدن في زمن السلم، حيث يُتركون فريسةً للمجاري، وللأبنية تحت التشييد، ولحاويات نفايات الأحياء المترفة.
هذا المنطق ليس جديداً. ففي “معذَّبو الأرض”، وصف فرانز فانون العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بأنها “علاقة عنف محض”، حيث يُعاد إنتاج “الآخر” كـ”عنصر فائض”
(un surplus)
يمكن استغلاله أو التخلص منه وفقاً لحاجات السلطة.
الطفل الهامشي في السودان اليوم يُجسِّد هذا المنطق بجلاء: لا يُعامَل كجزء من المجتمع السياسي، بل كمشروع مجرم علي الملمح، كعدو محتمل، وككائن قابل للاستعمال العابر – سواء في حمل السلاح القسري أو كقناع يُغطِّي فشل الأجهزة الأمنية
إن جهاز الدولة حين يُجرِّد الهامش من صفة المواطنة، يُكرِّس ما وصفه جورج أغامبن في
“Homo Sacer”
(الإنسان المستباح): كائن خارج الحماية القانونية، يمكن قتله دون أن يُعد ذلك جريمة، أو يُستغل ويُعذَّب دون أن يُثير ذلك مساءلة أخلاقية أو سياسية. إن “الكشة” هي إعلان صريح بوجود فئة من السكان تعتبرهم الدولة كائنات سياسية منقوصة، تُدرجهم في الاقتصاد الرمزي للأمن دون أن تمنحهم حق الوجود كمواطنين.
وما يزيد هذه المفارقة قتامة، هو أن الهامش السوداني – وأطفاله تحديداً – يُستدعى باستمرار في لحظات الحاجة العسكرية، ليُقاتلوا في الصفوف الأمامية إلى جانب القوات المسلحة، بينما يُعاد في أوقات السلم إقصاؤهم إلى خانة اللا- مواطنين- مشرّدين في الشوارع، مكدّسين في أطراف المدن، يُجرّمهم النظام بدل أن يعترف بمسؤوليته التاريخية عن تهميشهم واستغلالهم. بهذا المعنى، فإن “الكشة” ليست ممارسة أمنية معزولة، بل نمطٌ بنيوي من أنماط الدولة العنيفة، تلك التي تقوم على سياسة انتقائية في تعريف من يُحسب مواطناً، ومن يُعزل إلى فضاء الموت الاجتماعي.
في ختام هذه الرؤية، نجد أنفسنا أمام مأساة أخلاقية وسياسية من العيار الثقيل. وكما كتب جيمس بالدوين:
“ليس على السود أن يثبتوا إنسانيتهم؛ على الدولة أن تثبت قدرتها على رؤيتهم كأناس”.
وفي السودان اليوم، ليس على أبناء الهامش أن يثبتوا جدارتهم بالمواطنة؛ بل على الدولة أن تتوقف عن إدارتهم كـ”مستودع بشري” يُساق حين الحاجة، ويُلقى حين الاستغناء.
ثانيًا: “الكشة” كمفارقة فلسفية – حين تنقلب العدالة إلى أداة قمع:
نقف هنا أمام إحدى المفارقات الجوهرية التي وصفها جورج أورويل في روايته “1984”، حين تتحول اللغة إلى أداة تبرير للجريمة، وزارة الحب تدير التعذيب، ووزارة السلم تطلق الحروب. في السياق السوداني الراهن، يُعاد إنتاج هذا النمط الخطابي، تُسمّى ممارسة الكشة – بما تحمله من عنف رمزي ومادي – “خطة استباقية”، ويُجرَّم أطفال الهامش بوصفهم “معتادي الإجرام”، وتُحوَّل الطفولة نفسها إلى “ظاهرة سالبة”.
إننا هنا أمام عدالة مقلوبة، حيث تُمارس الدولة عنفها باسم النظام العام، وتُنتج خطابًا أمنيًا يغطي على فشلها البنيوي في تحقيق شروط العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. الغريب – والمقلق – أن هذا الانقلاب لم يَستفز حتى اللحظة المعلَنة موقفًا واضحًا من منظمات حقوق الإنسان أو منظمات حماية الطفولة العاملة في السودان. كان حريًّا بهذه المؤسسات – إن التزمت حقًّا بالمعايير الكونية لحقوق الإنسان – أن ترفع صوتها بإدانة واضحة لهذه الممارسة، لا أن تُحكم صمتها أو تُبرره ضمنيًا بحسابات الهوية والانتماء.
في هذا السياق، يستدعي التفكير الفلسفي مفهوم إيمانويل ليفيناس عن “وجه الآخر”، الذي يُعبّر عن دعوة أخلاقية ملحّة، أن ننظر إلى وجه الآخر بما هو إنسان، لا موضوعًا للتجريم أو الخوف. لكن الأجهزة الأمنية السودانية لا ترى في وجوه هؤلاء الأطفال – خصوصًا القادمين من دارفور، النيل الأزرق، أو جبال النوبة – إلا خطرًا متخيلًا، وجسدًا غير مرغوب فيه، يُنتَج في خطاب السلطة كتهديد للنظام بدل أن يُرى ككائن مستحق للرعاية والحماية.
الأدهى أن هذا المنطق العنصري، الذي يُعيد إنتاج “المجال الاستعماري” داخل الفضاء الوطني، يبدو أنه قد ترسخ – ولو بغير وعي مباشر – حتى في بعض أوساط المجتمع المدني. فالصمت المطبق من منظمات حقوق الإنسان على هذه الجريمة يكشف عن اختلال أخلاقي عميق: فحين تكون قيادة هذه المنظمات بيد فئات لم تطلها التجربة التاريخية للتهميش، يصبح معيار الاستحقاق الحقوقي انتقائيًا. يُكَرَّس ضمنيًا تصورٌ عن “أي الأطفال يُحمى”، و”أي الطفولة تُعدّ مشروعة”، وفقًا لهوية الطفل وانتمائه الاثني، الديني، الطبقي والجغرافي.
في المحصلة، ما نراه هو سياسة فرز أخلاقي للضحايا، تمارسها الدولة ويعيد إنتاجها جزء من المجتمع المدني. وهنا، يحضر تحذير فرانز فانون من أن “القمع حين يُستبطن في مؤسسات المجتمع، لا يعود مجرد سياسة سلطة، بل يصبح ثقافة موت اجتماعي”. إن تفكيك هذه العدالة المقلوبة ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة سياسية – أخلاقية، إذا كان للسودان أن يسعى حقًا لبناء دولة المواطنة، لا دولة السحنة والطبقة والانتماء الجغرافي.
ثالثًا: “الوجوه الغريبة” – حين يُعاد تعريف الإنسان كـ”فائض اجتماعي”:
“الوجوه الغريبة” – تلك التي تُجرّم لا بفعل ارتكابها لجريمة، بل لمجرد خروجها عن معايير الملامح أو الانتماء التي تفرضها السلطة الاجتماعية والسياسية.
أبناء “الكشة” ليسوا لصوصًا بالفطرة ولا منحرفين بالميلاد، بل أبناء دولة أجرمت في حقهم منذ التكوين، دولة تشكّلت على هوس ديني- إثني منذ الاستقلال، متبنية مشروعًا فاشيًا ثقافيًا يسعى لخلق “الإنسان الرسالي” وفق معايير النخب المركزية الفاشلة. كل من لا تنطبق عليه هذه الشروط – في السحنة، واللغة، والانتماء الجغرافي – يُوصف بأنه “شماشي” يجب “كشه”، او الزج به في السجون استباقا، بحجة أنه مشروع مجرم، و”يقبح” شوارع المدن، امنها أو يُخلّ بجمالياتها المصطنعة التي تحرسها سردية الصفوة.
أشار العديد من الكتاب ل “الحداثة كبيروقراطية” في الدول الفاشية تُعيد تصنيف فئات من البشر كـ”فضلات اجتماعية”
(Human Waste)
يمكن التخلص منها عبر سياسات أمنية أو اقتصادية أو رمزية. أبناء الهامش في السودان يمثلون في المخيال السلطوي هذا “الفائض البشري”، الذي يُصبح عبئًا يجب محوه أو ترحيله إلى هوامش الوجود.
في أدبنا المحلي، فالصوت الهامشي يظهر في شقوق النصوص، في قصائد محمد مفتاح الفيتوري، الذي غنّى للهامش وللهوية الإفريقية المكبوتة في مواجهة المشروع القومي النيلي. كذلك في سيرة التيجاني يوسف بشير، الذي دفع ثمن خروجه عن خطاب الطهر الثقافي والاجتماعي، حين عُزل ومات مهمّشًا. حتى أدب الطيب صالح – رغم عبقريته في فضح البُنى الاستعمارية – بقي في جوانب منه حبيس المركز، مترددًا في مقاربة التهميش البنيوي العميق الذي فرضته الدولة السودانية على سكان الأطراف!.
في الخلاصة، “الكشة” ليست مجرد ممارسة شرطية عابرة؛ إنها التعبير العنيف عن سردية نخبوية تقصي “الوجوه الغريبة” من مشهد المواطنة الكاملة، وتحولهم إلى فائض يجب التخلص منه. الأدب – حين يضيء هذا القمع – يصبح شهادة مضادة، وذاكرة مقاومة في وجه ماكينة النسيان والتبرير.
رابعًا: دعوة لأبناء وبنات الهامش – لا تسمحوا للدولة بحرق أطفالكم باسمها:
إن أولئك الذين تُطلق عليهم الدولة ومجتمعها المتواطئ صفة “الشماسة” ليسوا “معتادي الإجرام” كما يروّج الخطاب الأمني، بل هم أبناء الفقراء والمهمّشين الذين دفعت بهم الحروب والنزاعات والمجاعات والنزوح القسري إلى هوامش المدن. هم أبناء قرى مدمّرة مثل قرية الخيرات، والعزبة وسكان الكنابي الذين حُرموا من أبسط حقوق المواطنة: الأرض، التعليم، السكن الآمن، وحق الهوية القانونية نفسها.
لقد خُلقت بفعل هذا العنف المنظَّم فئة عمرية معلَّقة. فتيان وفتيات في عمر الطفولة والمراهقة يُجبرون على النوم في العراء، على أرصفة المدن وأسواقها، بلا وثائق، بلا حماية، بلا مستقبل. ومع ذلك، يُعاد تعريفهم في خطاب السلطة كـ”ظاهرة سالبة” تهدد الأمن العام، ويُجري شيطنتهم في الإعلام الرسمي وكأنهم هم سبب خراب المجتمع، لا ضحية بنيته العنصرية.
هذا ما وصفه يوهان غالتونغ في نظريته عن العنف البنيوي، حيث لا يبدو العنف في صورة الرصاصة أو الهراوة، بل في سياسات التفقير الممنهج، والإقصاء القانوني والاجتماعي، وتجريد فئات كاملة من حقها في العيش الكريم. إن أبناء قرية الخيرات، العزبة وأطفال الكنابي، وغيرهم، هم اليوم وجه هذا العنف البنيوي الذي تَحوّل إلى سياسة موت يومية.
دولةٌ فشلت – لعقود – في حماية هؤلاء الأطفال من النزاعات، من الإفقار الممنهج، ومن الحرمان التعليمي، لا تملك أي مشروعية أخلاقية لتحويلهم اليوم إلى مجرمين صغار في خطابها، أو إلى دروع بشرية تُساق إلى جبهات القتال لتغطية عجزها الأمني والسياسي. إنها الدولة نفسها التي لم تبكِ يومًا على ضحايا مجازر دارفور، أو على جثث المدنيين في نيالا، أو على مذابح الهامش، فكيف لمن لم يعرف الحزن على الأطفال القتلى أن يتحدث اليوم عن “حماية الأسواق” من “ظواهر سالبة”؟
خامسا: هنا ينبغي على الآباء والأمهات، في قرى الهامش، في معسكرات النزوح، في الكنابي، وفي أطراف المدن، أن يطرحوا على أنفسهم سؤالاً وجودياً:
هل ترسلون أبناءكم إلى الجيش ليقاتلوا دفاعاً عن وطنكم؟ أم ليتحوّلوا إلى وقود يُغطي بفنائهم فشل دولة عنصرية؟
هل بقي هذا الوطن وطناً حين يعاملكم كـ”فائض سكاني” يُعتقل بلا تهمة، يُرحَّل بلا إذن، يُجنَّد قسراً بلا عقد أو حماية؟ حين يُلقى بأطفالكم إلى العراء في المدن، ثم يُعاد تصنيفهم كـ”مهددين للأمن العام”؟
إن ما يجري اليوم يُعيدنا إلى مفهوم أشيل مبيمبي في نيكروبولتيكس – سياسة الموت – حيث تملك الدولة سلطة تحديد من يستحق الحياة الكاملة، ومن يُدفع إلى حافة الموت الاجتماعي أو المادي. إن ظواهر مثل “الكشة” والقبض علي المهمشين “استباقا لجرم ما” ليس إلا أداة ضمن هذه السياسة: يُعاد إنتاج أبناء الهامش كـ”قابلين للتصفية”، تُلقى بهم إلى العراء نهارًا، وتُطاردهم حملات الشرطة ليلاً.
لذلك، هذه دعوة صريحة – وتحذير أخلاقي:
لا تُسلّموا أبناءكم لمحرقة دولة لم تعترف يومًا بإنسانيتهم. لا تسمحوا بتجريدهم من طفولتهم وتحويلهم إلى جنود مرتزقة باسم الوطنية الزائفة. بل ناضلوا – كما حرض جيمس بالدوين وغيره من أجل الحق في أن تكونوا آباء وأمهات لطفولة محمية، لا لطفولة مسلّحة.
وضعوا نصب أعينكم أن الصمت في وجه تجريم أطفالكم هو تواطؤ، وأن من يسكت اليوم عن سياسة مثل “الكشة” و”الاعقالات الاستباقية”، سيسكت غداً عن موت أبنائكم في ساحات القتال أو على أرصفة العراء.
اخيرا: نحو دولة المواطنة لا دولة السحنة – وتحذير إلى من يأمرون، وينفذون، ويتواطأون، ويصمتون:
إن عودة ظاهرة الكشة اليوم عبر ما اسميتوه “خطة استباقية” لـ”إزالة الظواهر السالبة” ليست مجرد تكرارٍ لماضٍ مظلم؛ إنها إعلان فج بأن بنية الدولة السودانية لم تتغير. الثورة لم تكتمل، بل أُجهضت في مفاصلها العميقة. والحرب – مهما تذرعت بخطابات الوطنية الزائفة – لم تفلح إلا في تعميق الطابع الفاشي العنصري للسلطة، حيث يُعاد إنتاج “العدو الداخلي” على هيئة أطفال فقراء، تُجَرَّم طفولتهم ويُقتلع حقهم في الحماية.
إن ما يجري اليوم – من تجريم أطفال الهامش، ودفعهم إلى ساحات الموت أو الشوارع – هو جريمة تاريخية مكتملة الأركان، يجب أن تُوثّق بدقة لا كجزء من العدالة الانتقالية العابرة، بل في سجل العدالة التاريخية التي ستُحاكم يوماً ما من أمر، ومن نفّذ، ومن تواطأ، ومن صمت عن هذه الانتهاكات.
وليعلم من يُشاركون في هذا النظام – من ضباط، ومن قضاة، ومن رجال شرطة، ومن موظفي دولة، ومن قادة منظمات مجتمع مدني يلوذون بالصمت أو يبررون – أن التاريخ لن يعفيهم. هؤلاء الأطفال يدفعون اليوم ثمن عجز النخب السياسية والاجتماعية عن بناء دولة تؤمّن لهم طفولة آمنة وكريمة. كل يدٍ ساهمت في هذا القمع – بالفعل أو بالصمت – شريكة في مأساة هؤلاء الصغار.
إن هذا المقال دعوة صريحة للانحياز لبناء مشروع وطني جديد يُعيد تعريف “السودانية” لا وفقًا لسحنة، ولا لهجة، ولا موقع جغرافي، بل وفقًا لمبادئ الكرامة، والمساواة، والمواطنة الكاملة.
وفي السودان اليوم، ليس على أطفال الهامش أن يثبتوا حقهم في الطفولة والمواطنة؛ بل على الدولة – ومن يحكمها ومن يشرّع لها ومن يسكت عن جرائمها – أن يُكفّوا عن معاملة وجوه هؤلاء الأطفال كجريمة.
وإلا فإن سجل العدالة القادمة سيحمل أسماءهم جميعاً.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)