السبت: 2025/04/26
د. عبدالمنعم همت
لم تكن إقالة وزير الخارجية السوداني علي يوسف مجرد حدث إداري عابر. إنها في جوهرها مرآة لما آلت إليه بنية الحكم في السودان، حيث تغيب الشفافية، وتنعدم المؤسسية، وتُتخذ القرارات بعيدا عن أيّ إطار قانوني أو مرجعي دستوري.
فقد جرى تعيين الرجل في نوفمبر الماضي دون أن تُمنح له صلاحيات حقيقية، وظل طوال فترة عمله يخوض معركة صامتة داخل وزارة باتت أسيرة مراكز النفوذ والتجاذبات العقائدية، ثم أُقيل فجأة، كما عُيّن، في غياب كامل لأيّ تفسير رسمي أو مساءلة علنية.
الحادثة تكشف فوضى الدولة:
هذه الحادثة، على رمزيتها، تكشف عن عمق الأزمة البنيوية التي تضرب مفاصل الدولة السودانية. فليست المشكلة في الأشخاص الذين يتولون المناصب، بل في السياق المعطوب الذي يجعل من الوزير مجرد ظل، ومن المؤسسات واجهات شكلية، ومن الدولة كيانا هشا تتحكم فيه أطراف تتوارى خلف العباءة الإدارية، لكنها تدير المشهد وفقا لحسابات لا علاقة لها بمصالح الشعب أو مستقبل البلاد. والمؤسف أن الخارجية، التي ينبغي أن تكون صوت الدولة في العالم، تحوّلت إلى حلبة نزاع، يتحدث باسمها أكثر من طرف، ويُدار خطابها من غرف غير مرئية، في غياب أيّ سياسة واضحة أو مرجعية ثابتة.
لا يمتلك سياسة خارجية:
السودان اليوم، وهو يمر بأخطر لحظات تاريخه الحديث، لا يمتلك سياسة خارجية يمكن الركون إليها. كلما ظن المراقب أن ثمة رؤية بدأت تتشكل، تبددت تلك الظنون أمام تصريحات متناقضة، ومواقف مرتجلة، وممارسات تعكس فوضى داخلية لا تخفى على أحد. فبدلًا من أن يكون الوزير هو المتحدث الوحيد باسم الدولة في المحافل الدولية، تنبعث من خلفه أصوات متعددة، كل واحد يمثل جهة ما، أو ولاء خفيا، أو مشروعا يتقاطع بالضرورة مع هوية السودان الموحدة.
وزير بلا صلاحيات:
من المعروف بالضرورة، لم يعد الوزير يملك من أمره شيئا، ولا يستطيع أن يُحدث أيّ تغيير، بل يتحول إلى موظف مكلف بإدارة ملفات دون أن يكون له حق التقدير أو التوجيه. وتصبح الوزارة مجرد واجهة ظاهرية، بينما يتم اتخاذ القرارات الحقيقية في أماكن أخرى، تغيب عنها الشفافية وتغيب عنها كذلك الإرادة الوطنية الخالصة.
نحو التفكيك:
في خضم هذه الفوضى، تغيب كذلك مفاهيم السيادة والاستقلالية في القرار. فالسودان، الذي كان في يوم من الأيام قادرا على رسم مواقفه الخارجية باستقلالية وحنكة، أصبح اليوم تابعا لمحاور إقليمية، يُستدرج إليها دون أن يملك القدرة على التفاوض أو الممانعة. وليس من المبالغة القول إن كثيرا من الملفات الحساسة تُدار خارج حدود السودان، وبمعزل عن مؤسساته الرسمية، وهو ما يُضعف موقعه التفاوضي، ويُفقده الاحترام الدولي، ويعمّق من عزلته السياسية.
النفق المظلم:
إن السودان لن يخرج من نفقه المظلم ما لم يُعِد بناء مؤسساته على أسس ديمقراطية، وما لم يتحرر قراره السياسي من قبضة الأيديولوجيات والتنظيمات، وما لم تعُد الدولة إلى موقعها الطبيعي، بوصفها كيانا يعبر عن إرادة الجميع، لا عن طموحات قلة تتحرك في الظل.