حين تتداخل السياسة بالحرب، يطفو على السطح جدلٌ واسعٌ حول كل خطوة عسكرية تتخذها الأطراف المتصارعة، وهذا ما يحدث اليوم في السودان مع انسحاب قوات الدعم السريع من أجزاء واسعة من الخرطوم. فهل هو تكتيك عسكري محسوب أم تراجع اضطراري يعكس هزيمة ميدانية؟
لطالما كانت الحروب ساحةً يتصارع فيها المنطق العسكري مع الإدراك الشعبي، والانسحاب التكتيكي أحد أبرز استراتيجيات الحرب الحديثة. حين قررت قوات الدعم السريع الانسحاب من مناطق رئيسية في الخرطوم، لم يكن ذلك إعلانًا للهزيمة، بل خطوة مدروسة تهدف إلى إعادة توزيع القوة وفق مقتضيات المرحلة، وهو نهج تعتمده الجيوش المحترفة للحفاظ على زخم المعركة، وإعادة ترتيب الأوراق لصالحها.
لقد أدركت القيادة العسكرية لقوات الدعم السريع أن معركة الخرطوم، بما فيها من تعقيدات جيوسياسية وعسكرية، لا يمكن أن تُحسم بمواجهة استنزافية مفتوحة في مسرح عمليات مزدحم بالمدنيين. لذلك، جاء الانسحاب لإعادة التموضع وفق رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تستند إلى مفاهيم المناورة والمباغتة، لا الاستنزاف والخسائر
أي محلل عسكري يدرك أن التحركات الميدانية لا تُقاس بالمساحات الجغرافية فقط، بل بقدرة القوات على التحكم في زمام المبادرة. وإذا تأملنا في كيفية إدارة الدعم السريع للمعارك خلال الأشهر الماضية، نجد أن القيادة لطالما اعتمدت على سرعة الانتشار وخفة الحركة، بدلاً من الغرق في معارك ثابتة ترهق القوة القتالية. انسحاب اليوم قد يكون تمهيدًا لتحولات تكتيكية أكبر، حيث تعيد القوات بناء استراتيجيتها على أسس أكثر مرونة، وربما تحضر لمفاجآت مستقبلية في ميدان القتال والسياسة.
هذا الانسحاب يحمل في طياته أكثر من مجرد بعد عسكري، فهو أيضًا رسالة سياسية ذكية للعالم وللخصوم على حد سواء. فهو يعكس أن الدعم السريع ليس مجرد قوة مقاتلة، بل لاعب استراتيجي يدرك متى يتقدم ومتى يتراجع تكتيكيًا. كما أنه قد يكون إشارة إلى استعداد لمراحل تفاوضية محتملة، تضع الدعم السريع في موقع قوة، لا كطرف مهزوم بل كجهة قادرة على فرض شروطها ضمن أي تسوية قادمة.
المعادلة لم تُحسم بعد…
من يقرأ الصراعات الكبرى في التاريخ يدرك أن الانسحاب لا يعني الهزيمة، بل قد يكون خطوة نحو نصر أكبر. وفي الحالة السودانية، فإن الدعم السريع ما زال يمتلك أوراقًا قوية في الميدان، ولن يكون انسحابه من بعض المواقع في الخرطوم سوى بداية لمرحلة جديدة من الصراع، قد تكون أكثر حسماً لصالحه.
في النهاية، يبقى الميدان هو الحكم، والتاريخ مليء بشواهد على أن من يتقن فن المناورة، هو من يكتب السطر الأخير في المعركة.