أ – محمد الهادي
26 فبراير 2025
في تطور مثير للجدل، لقي اللواء الركن بحر أحمد بحر قائد المنطقة المركزية العسكرية مصرعه، إلى جانب عدد من الضباط والقيادات الإسلامية داخل الجيش، جراء سقوط طائرة عسكرية في أم درمان قبل ساعات، وأكدت مصادر ميدانية أن جميع من كانوا على متن الطائرة قد لقوا حتفهم، وسط تزايد التكهنات حول طبيعة الحادث.
وأفادت ذات المصادر عن صول جثامين خمسة قتلى مدنيين إلى مستشفى النو بأم درمان، وذلك يعزز الشكوك بأن الطائرة لم تكن تحمل طاقمها العسكري فحسب، بل ربما كانت تقل شخصيات أخرى ذات أهمية سياسية أو أمنية.
توقيت الحادثة يثير تساؤلات حول ما إذا كان الأمر مجرد حادث عرضي أم تصفية سياسية موجهة، خاصة في ظل الصراعات الأخيرة المحتدمة داخل المؤسسة العسكرية والإسلاميين في بورتسودان، وفي السابق تكررت حوادث الطائرات، والتي راح ضحيتها قيادات بارزة وسط الإسلاميين، وذلك يعيد إلى الأذهان سيناريوهات تصفيات سابقة استهدفت رموزاً داخل النظام الحاكم.
فهل كان هذا الحادث مجرد خلل فني، أم أن هناك من أراد إسكات أصوات داخل الجيش بوسيلة مألوفة؟
على مدى ثلاثة عقود من حكمهم، تشكّلت وسط الإسلاميين في السودان شبكة معقدة من التحالفات والصراعات الداخلية التي تحكمها المصالح أكثر من المبادئ، وخلال فترة حكم الإنقاذ (1989-2019)، كانت التصفيات السياسية أداة رئيسية استخدمتها الحركة الإسلامية لإدارة خلافاتها الداخلية، سواء داخل التنظيم أو ضد خصومها من القوى السياسية الأخرى، ودارت بينهم حروباً داخلية، أداروها في الخفاء بأساليب مختلفة، تتراوح بين العزل السياسي والتهميش، وصولًا إلى التصفية الجسدية المباشرة.
شهدت سنوات حكم الإنقاذ العديد من الحوادث التي أثارت الشكوك حول تورط النظام في تصفية بعض قياداته، خاصة أولئك الذين شكلوا تهديداً لمراكز القوى داخل التنظيم، وكان مقتل الزبير محمد صالح، نائب رئيس الجمهورية آنذاك في حادث تحطم طائرة بجنوب السودان عام 1998، عبارة عن نقطة تحول في طبيعة الصراع داخل الحركة الإسلامية، وبرغم أن الحادث صُوّر على أنه قضاء وقدر، إلا أن كثيرين رأوا فيه عملية إقصاء منظمة ومدبرة، خاصة وأن الزبير كان محسوباً على التيار العسكري داخل النظام، وهو التيار الذي تعرض لاحقاً لمزيد من التصفية والتهميش.
بعد ذلك، كان مقتل إبراهيم شمس الدين، أحد صقور النظام العسكريين، الذي لقي المصير ذاته في عام 2001، حين تحطمت طائرته في حادث مشابه لحادث الزبير، وشمس الدين كان معروفاً بتشدده ورفضه للتسويات السياسية مع القوى المعارضة، وكان يمثّل تهديداً لمراكز القوى التي بدأت تتحول نحو البراغماتية السياسية، خاصة بعد الضغوط الدولية على النظام لقبول التسويات السياسية، وجاء مقتله في شكل رسالة واضحة، مفادها أن موازين القوى داخل النظام تتغير، وأن من يرفض هذه التغييرات عليه أن يدفع الثمن.
خلال فترة حكمهم لم تكن التصفيات تقتصر على القادة العسكريين فحسب، إنما امتدت لتشمل سياسيين مؤثرين داخل الحركة الإسلامية، مثل مجذوب الخليفة، الذي توفي في حادث سير غامض عام 2007، والخليفة كان أحد العقول المدبرة في النظام، ولعب دوراً كبيراً في المفاوضات مع الحركات المسلحة، ولكن موته المفاجئ فتح باب التكهنات حول ما إذا كان حادثاً أو تصفية سياسية نتيجة صراعات داخلية على النفوذ.
إدارة الإسلاميين لخلافاتهم لم تعتمد فقط على التصفيات الجسدية، فقد كانت هناك أيضاً أساليب أخرى مثل العزل السياسي، والإقصاء الناعم عبر التهميش، أو حتى تلفيق التهم للخصوم داخل التنظيم، وكان يوسف لبس، أحد الإسلاميين الذين خاضوا صراعات مع النظام، حتى انتهى به المطاف في السجن، حيث توفي في ظروف غامضة، في وقت كان يُنظر إليه كخصم محتمل لبعض قيادات الحركة الإسلامية.
صراعات الاسلاميين لم تقتصر على الداخل فيما بينهم، فقد امتدت إلى طريقة تعاملهم مع خصومهم السياسيين من خارج التنظيم، بطريقة الإعدامات الميدانية، كما حدث في مواجهة الحركات المسلحة، أو القمع العنيف للمظاهرات، والاعتقالات السياسية، وكانت جميعها جزءاً من منهجية ترى في العنف وسيلة مشروعة للحفاظ على السلطة، فالإسلاميون في السودان لم يقتصروا منهج التصفيات على إقصاء منافسيهم التقليديين من الأحزاب الأخرى، بل كانوا دمويين جدا في إقصاء بعضهم بعضاً متى ما اقتضت الضرورة ذلك.
اللافت في الامر، أن تلك الصراعات الداخلية كانت تتفاقم كلما واجه النظام ضغوطاً سياسية أو اقتصادية، وذلك يكشف أن التحالفات داخل الحركة الإسلامية لم تكن مبنية على أسس أيديولوجية متماسكة، بقدر ما كانت تحالفات ظرفية تحكمها المصالح، وحين تراجعت قبضة الإسلاميين على الحكم بعد سقوط نظامهم في 2019، خرجت إلى العلن كثير من الخلافات التي كانت تدار في الخفاء، ليتضح أن التنظيم الذي حكم السودان لعقود طويلة لم يكن كياناً موحداً، بل شبكة من التوازنات الهشة التي كانت تنهار مع كل اختبار حقيقي للسلطة.
ويبقى السؤال الأهم: هل كانت هذه الصراعات استثناءً في تجربة الإسلاميين في الحكم، أم أنها جزء من طبيعتهم السياسية؟ فالتجربة تقول إن الإسلاميين، سواء في السودان أو في تجارب أخرى، يميلون إلى استخدام القوة والعنف ليس فقط ضد خصومهم، بل حتى فيما بينهم، وفي النهاية، لا يبدو أن دروس الماضي قد غيرت من نهجهم، إذ لا يزالون اليوم يعيدون إنتاج نفس أساليبهم القديمة، حتى بعد سقوط نظامهم، في محاولاتهم المستمرة للعودة إلى المشهد السياسي، ولو على أشلاء بعضهم البعض.