عودة البرهان إلى الخطابات المرتجلة، وهجومه العلني على حمدوك وخالد سلك، يكشف إرتباكه العميق خاصة أنه لم يجرؤ على ذكر الحلو ولو بكلمة فهو يعلم أن هناك آخرين من “الحلوين” قرروا أن يكونوا نواة لحكومة جديدة ستتفوق عليه عسكريًا وسياسيًا وعلى كل المستويات. وبحكم سيطرته على أجهزة استخبارية، يدرك البرهان أن كل يوم يقضيه كقائد عسكري لمليشيا الحركة الإسلامية هو خطوة جديدة تغرقه في بحرٍ لا قرار له …
وفي المقابل، بدأ بعض العسكريين من داخل ما يسمى بـ”الحركة اللا إسلامية”، بأمرٍ من البرهان، محاولات للتقرب سراً من قوات الدعم السريع، لكنهم قوبلوا بالرفض القاطع فالمعادلة باتت واضحة: الرهان على روسيا لن يكون سوى إعادة إنتاج لمصير بشار الأسد. هؤلاء يعرفون أن الرهان الخاسر لا يستحق المغامرة …
لكن الصراع الحقيقي الذي لم يكن في حسبان البرهان يوماً هو المواجهة السياسية مع حمدوك، فالبعد بينهما يتجاوز حدود التنافس السياسي التقليدي. البرهان يبحث عن الشرعية، وهي ورقة يملك حمدوك القدرة على حرمانه منها للأبد. بينما الحكومة الجديدة التي يمثلها تحالف السودان الجديد التأسيسي ليست بحاجة أصلاً إلى اعتراف أو شرعية من أحد، ما يجعلها في موقع قوة لا يستطيع البرهان التأثير عليه. هذا ما يدفعه إلى حالة من التخبط السياسي والدبلوماسي، إذ يدرك أن حمدوك قادر على سد كل الأبواب أمامه : الاتحاد الإفريقي، جامعة الدول العربية، المجتمع الدولي، كل هذه المسارات مغلقة طالما أن حمدوك يرفض الاعتراف به. والنتيجة الحتمية لهذا السيناريو هي خروج البرهان والإسلاميين من المشهد، ليبقى محاصراً داخل دائرة مناوراته القديمة مستغلاً بقايا الحركات المسلحة التي رضي بعض قادتها بأن يكونوا مجرد أدوات تُحرك عبر “البلوتوث” لتعيينهم كولاة وحكام على مناطق بعيدة عنه، حتى باتوا يتمنون عودة الاتفاق الإطاري، ولكن دون جدوى …
في المقابل، لم يعد الدعم السريع مجرد قوة عسكرية أو مليشيا، بل تحول إلى فاعل سياسي وعسكري يمتلك وزناً أكبر من بورتسودان ذاتها، تدعمه تحالفات إقليمية يدرك خصومه خطرها جيداً جيش بورتسودان وأبواقه الإعلامية اختاروا العداء مع هذه القوى، وأصبحوا في عزلة تزداد يوماً بعد يوم. تبعات هذه المعادلة ليست بحاجة إلى تفسير طويل، فالنتائج ستتكشف قريباً لمن لا يزالون يعتقدون أن المشهد ثابت لا يتغير …
أما ما يجهله “البُلابسة” والمسبِّحون بحمد البرهان وكرتي، فهو أن هذه الحرب تحولت إلى حرب سياسية قبل أن تكون عسكرية. انسحابات الدعم السريع ليست ضعفاً، بل جزء من تموضع استراتيجي جديد، حيث أصبح الرد على الاستفزازات والحروب النفسية غير ضروري في ظل تحولات كبرى في المشهد السياسي والعسكري. الحقيقة التي يرفض البعض الإعتراف بها، تفهمها بورتسودان جيداً، حتى لو أنكرها من يظنون أن الحرب مجرد معركة عسكرية تقليدية …
أما خطاب الشتائم والبذاءة، فهو انعكاس لحالة الفشل والإحباط التي يعاني منها أتباع مشروع “بنك الشمال”. فهجومهم على حمدوك ليس سوى صرخة خوف، لأنهم يدركون أنه يقطع عنهم بلسانه فقط أي طريق للحصول على الشرعية في العالم، ومهما أنفقوا من أموال وسعوا لكسب الاعتراف، فلن ينجحوا هذا يعني أن مخططاتهم لإشعال الحرب وتشريد الملايين وصلت إلى نهايتها المسدودة. والسيناريو الوحيد المتبقي لهم هو أن يبدأوا بخيانة بعضهم كما اعتادوا، أو الإقدام على إنتحار عسكري عبر تقديم مناوي وجبريل وما يُعرف بـ”المشتركة” إلى المذبحة نيابة عنهم، وهي مرحلة النهاية الحتمية لهذا التحالف العنصري المتطرف البغيض. من أخذ تحذيراتنا السابقة على محمل الجد، فقد وفر على نفسه معاناةً شاهدها الآخرون تتكرر في أماكن أخرى، أما من لا يزال مختبئاً في أزقة فيصل القذرة بالقاهرة أو في أي دولة آمنة، فليس في دائرة اهتمامنا …
هذه الحرب على وشك أن تدخل مرحلة جديدة، وهذه ليست تهديدات، بل حقائق ستتكشف أمام الجميع. السودانيون جميعهم في مقام الاحترام والتقدير، ولكن آن الأوان لأن يدركوا أن المشهد ليس كما يبدو، وأن الحقائق التي يتم تشويهها اليوم لن تظل كذلك في المستقبل القريب او السودان الجديد …
.
.
دكتور وليد شداد