لم يكن فقدان الامتيازات التاريخية الاجتماعية والسياسية أمرًا سهلًا على الجلابة فقد دفعهم هذا الواقع الجديد إلى خوض معركة يعلمون مسبقًا أنهم خاسرون فيها. هذه المرة كان العداء موجّهًا إلى الكيان الخطأ فبدلًا من مواجهة خصومهم التقليديين وجدوا أنفسهم في مواجهة مع أعراب دارفور أصحاب النسل الواحد، الذين يمتد وجودهم في رقعة جغرافية شاسعة من السودان إلى تشاد جنوب ليبيا شمال النيجر شمال مالي جنوب الجزائر وحتى موريتانيا. هذه القبائل تمتلك قدرة فطرية على التماسك والتجمع وقت الأزمات وهو ما شهدناه في التاريخ عندما التفوق حول قوة الدولة خلال المهدية ثم تخلوا عنها بعد خلافهم معها تاركينها لمصيرها المحتوم.
لقد تعلموا من درس الماضي فبدلًا من إعادة الخطأ نفسه قرروا استخدام قوة الدولة مرة أخرى ولكن هذه المرة مع الدعم السريع الذي رفض زجّهم في هذا الصراع. ورغم الرفض الرسمي تسللت بعض المجموعات الكبيرة للمشاركة إدراكًا منها أن هذه المعركة مصيرية لبقائهم في هذه المنطقة وحفاظًا على وجودهم من خطر الإقصاء والانقراض.
أما الجلابة فهم حلف أو مجموعة متباينة الأعراق وقليلة العدد مقارنةً بأعراب الغرب السوداني. لكن علي رأس الحلف الجلابة هم الشوايقة الذين ينسبون أنفسهم تارةً إلى إبراهيم جعل وتارةً أخرى إلى النوبيين وفقًا للظرف السياسي والاجتماعي. ورغم قلة عددهم فإنهم أتقنوا استغلال الخطاب الشعبي و ابدعو في استخدامه مثل الحديث عن أبناء الشريط النيلي مصطلح الجلابة مما مكّنهم من السيطرة على السلطة لعقود مستخدمين تحالفات الرقعة الجغرافية لحماية امتيازاتهم المتآكلة.
و على مرّ التاريخ ظل صراعهم الأساسي في مخيلتهم يدور حول أبناء الصحراء فهم يخشون أن تعيد أعراب دارفور ماضيهم مع الخليفة عبدالله التي تسببت في تحالف الجلابة مع المستعمر لطعن الدولة من الخلف ثم فرضوا عقوبات على هذه المجموعات لأكثر من مئة عام. وفي نهاية المطاف وجدوا أنفسهم مضطرين لعقد تحالفات جديدة خوفًا من الحركات الدارفورية التي تسعى إلى إنهاء هيمنتهم ايضًا تمامًا مثلما سعت الحركة الشعبية في جنوب السودان حين استعصى على الجلابة القضاء عليها فكان الحل الوحيد فصل الجنوب.
أما الصراع على السلطة امتدّ إلى كل بقاع السودان و هذه المرة لم يكن حكرًا على دارفور أو كردفان. ففي التاريخ في شرق السودان حاول الشوايقة تهجير البني عامر واستبدالهم بسكان موالين لهم مستخدمين قوة الدولة أما في شمال السودان فقد شهدنا صراعاتهم مع المناصير وتهجير الحلفاويين من مناطقهم وإزاحة البديرية الدهمشية والرباطاب لصالح تحالفات جديدة مكّنتهم من الاستيطان مع الدناقلة والجعليين.
ورغم ذلك ظلّ هناك توتر خفي بين المجموعات النوبية مثل المحس والسكوت والعبابدة والبشاريين والحسانية الذين يرون في الشوايقة نظرة استعلاء و تهديدًا دائمًا لكنهم اضطروا إلى التحالف معهم خوفًا من فقدان النفوذ. أما الدناقلة رغم أنهم ليسوا جزءًا أصيلًا من الجلابة فإن نفوذهم السياسي والاقتصادي جعلهم يسعون للدخول في هذه المنظومة عبر تحالفات تكتيكية.
عندما يتحدث الجلابة عن نسبهم يدّعون أنهم عربٌ عباسيون كانوا يسيطرون على تجارة الرقيق. لكن في الواقع أقرب تحالف تاريخي لهم كان بين الشوايقة والجعليين حيث استغلّ الشوايقة حماسة الجعليين واندفاعهم في القتال لصالحهم. هذا التحالف جعل الشوايقة هم أصحاب السلطة الفعلية بينما الجعليين مجرد أداة تُستخدم في المعارك.
وفي المقابل نجد أن أعراب جهينة المنتشرين في وسط وشرق السودان وكردفان، تربطهم علاقات وثيقة مع الجعليين من مصاهرة و ثقافة مشتركة مما منح الشوايقة فرصة ذهبية للسيطرة على المشهد بأكمله عبر تحريض هذه القبائل ضد بعضها البعض بينما هم يجلسون في الخلف يراقبون المشهد ويعيدون ترتيب خارطة النفوذ وفقًا لمصالحهم.
إن الصراع في السودان ليس مجرد خلاف سياسي فقط بل هو معركة اجتماعية طويلة على الامتيازات التاريخية حيث تحاول فئة محدودة العدد استخدام قوة الدولة وتحالفات متغيرة للحفاظ على سيطرتها. لكن مع التغيرات الجيوسياسية ووعي الأجيال الجديدة لم يعد بالإمكان خداع الجميع إلى الأبد.
فالمعادلة بدأت تتغير والتحالفات التي استُخدمت سابقًا قد لا تصمد أمام الطوفان
وأن الشعوب عندما تدرك قوتها تستطيع قلب الموازين مهما كانت معقدة