(الراكوبة)
مقدمة:
الهجوم المباغت الذي شنّته القوات المشتركة – المتمثلة في الحركات المسلحة وبعض الميليشيات القبلية – على منطقة (الزرق) بشمال دارفور ليلة أمس السبت 21 ديسمبر ، لم يكن هجوماً بغرض السيطرة على منطقة عسكرية استراتيجية، بل بدا كضربة أولى تهدف إلى تحويل مسار الحرب من نزاع سياسي نشأ للوصول إلى السلطة تحت مظلة الإخوان المسلمين إلى صراع إثني بين العرب والزرقة.
فالمنطقة المستهدفة، الزرق، التي تُعد بادية للعرب ومسقط رأس الجنرال محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، خالية تماماً من أي وجود عسكري أو قواعد استراتيجية. ومع ذلك، تم اجتياحها والبقاء فيها لليلة واحدة فقط، تم فيها حرق وتدمير المرافق الحيوية، واستهداف المدنيين – ومعظمهم من النساء والأطفال – حيث قُتل 39 بحسب بعض التقديرات وإصابة العشرات. هذا التصعيد يشير بوضوح إلى أن الهدف من استهداف المنطقة هو نقل الحرب الدائرة، خاصة في دارفور، إلى مستوى أكثر تعقيداً عبر إذكاء الصراعات العرقية.
منذ بداية الحرب في 15 أبريل من العام الماضي، وباستثناء أحداث (الجنينة) وما صاحبها من انتهاكات واسعة أثارت جدلاً كبيراً حتى الآن، لم تشهد دارفور نزاعات عرقية مباشرة بين المكونات القبلية. ولكن يبدو أن الهجوم على الزرق كان عملاً مدروساً ومقصوداً، هدفه دفع الحرب نحو منحى جديد أشد خطورة.
ومن الواضح أن يوم 21 نوفمبر لن يكون مجرد يوم عادي في تاريخ هذا النزاع، بل سيحمل تداعيات كبيرة قد تغير مجريات الحرب بشكل جذري.
بداية الأحداث:
بدأت الأحداث مساء أمس عندما انتشرت أخبار على وسائل التواصل الاجتماعي عن دخول قوات مشتركة، تحديداً قوات تابعة لحركة “مني أركو مناوي” وقوات لرجل الحرب “عبد الله بندة”، المنشق سابقاً عن حركة العدل والمساواة. عبد الله بندة هو أحد الخمسة، إلى جانب كوشيب الذي يُحاكم حالياً، وعمر البشير، وعبد الرحيم حسين، وأحمد هارون، الذين اتهمتهم المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب.
تأكدت الأخبار بمهاجمة منطقة الزرق عندما غرد مني أركو مناوي مدوناً عبارة “We Got It”، وهي عبارة يستخدمها كثيراً عندما يريد أن ينسب مسؤولية عملٍ ما له ولقواته. وقد سبق أن استخدمها عند مقتل “علي يعقوب”، القائد العسكري الشهير في قوات الدعم السريع.
سرعان ما تأكدت معلومة دخول القوات المشتركة إلى منطقة الزرق، لكن عند الفجر أعلنت قوات الدعم السريع هزيمة القوات المهاجمة وطردها من المنطقة.
رد قوات الدعم السريع:
فجر اليوم الأحد 22 ديسمبر، أصدرت قوات الدعم السريع بياناً أعلنت فيه تحرير منطقة الزرق وطرد القوات المعتدية، مؤكدة أن القوات المشتركة ارتكبت تطهيراً عرقياً بحق المدنيين العزّل في المنطقة. وأوضحت أن تلك القوات تعمدت ارتكاب جرائم قتل بحق عدد من الأطفال والنساء وكبار السن، إضافة إلى حرق وتدمير آبار المياه، الأسواق، منازل المدنيين، المركز الصحي، المدارس، وكافة المرافق العامة والخاصة.
وجاء في البيان: “إن استهداف المدنيين في مناطق خالية من الأهداف العسكرية يشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ويمثل انعكاساً للعمل الجبان، وحالة الإفلاس والهزيمة، وعدم القدرة على المواجهة في ميادين القتال.”
وطالبت قوات الدعم السريع المنظمات الإقليمية والدولية المعنية بحقوق الإنسان بإدانة هذه الممارسات البشعة التي ارتُكبت بحق المدنيين الأبرياء.
واختتمت بيانها بوصف الهجوم بأنه محاولة تهدف إلى تحويل الصراع إلى “صراع قبلي لخدمة أجندة الجلاد.”
ردود الأفعال على الهجوم:
أصدرت تنسيقية الرحل والرعاة في ولاية جنوب دارفور بياناً أدانت فيه الهجوم على قرية الزرق، واصفةً إياه بأنه “هجوم عنصري”. وتعهدت بالاقتصاص للضحايا، مع توجيه اتهام مباشر إلى مني أركو مناوي، قائد حركة تحرير السودان. وجاء في البيان:”نحمّل جميع قادة الحركات الذين احتفلوا الليلة الماضية بمقتل الأبرياء العزّل في الزرق، وعلى رأسهم العنصري (مناوي)، المسؤولية الكاملة عن هذه الجريمة وكل من شارك فيها. ونقول لهؤلاء القتلة المجرمين: يدنا ستطالكم عاجلاً أم آجلاً، ودماء أهلنا لن تذهب هدراً، وستدفعون ثمناً باهظاً مقابل جرائمكم النكراء.”
كما استعرض البيان حجم الدمار والجرائم التي ارتكبت خلال الهجوم، مشيراً إلى أن المهاجمين: “أحرقوا المستشفى الوحيد في المنطقة وسوق القرية، ودمروا مصادر المياه، وارتكبوا مذبحة راح ضحيتها أكثر من (39) شهيداً، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن الركّع. كما نهبوا ممتلكات الأهالي داخل السوق وذبحوا مئات من الإبل والمواشي.”
تحليل مراقبين حول الهجوم على الزرق:
وصف مراقبون ما يحدث بأنه محاولة من الحركة الإسلامية، التي أشعلت فتيل الحرب، لتحويلها إلى صراع قبلي أو إثني في دارفور، مع الاعتماد على نفس الوسائل القديمة (عرب ضد زرقة)، لتحقيق هدفهم بالعودة إلى السلطة دون تكبد خسائر كبيرة.
وأوضح مراقب سياسي أن الإسلاميين يسعون إلى تشتيت الانتباه عن الصراع الأساسي، عبر تحويل الحرب إلى نزاع قبلي، مما يخفف الضغط عليهم ويتيح لهم فرصة لإعادة ترتيب صفوفهم واستعادة نفوذهم. كما أشار إلى أن هذه الاستراتيجية تتضمن تغذية الانقسامات القبلية داخل قوات الدعم السريع، التي تضم مقاتلين من خلفيات قبلية متعددة.
وأضاف المراقب أن الحرب العرقية ستفاقم الأوضاع الإنسانية الحرجة في السودان، متسببة في موجة نزوح كبيرة بين المدنيين، فضلاً عن تصاعد الانتهاكات بحقهم. وأكد أن هذا النوع من الصراعات لن يقتصر تأثيره على دارفور وحدها، بل سيمتد إلى السودان بأسره، مما سيؤدي إلى انقسامات مجتمعية واسعة، تعرقل جهود المصالحة الوطنية وتجعل الوصول إلى السلام أمراً شبه مستحيل.
واتفق المراقبون على أن هدف الإسلاميين هو تحويل الحرب في السودان إلى صراعات إثنية وقبلية، كوسيلة لتحقيق غايتهم في الوصول إلى السلطة. وأكدوا أن (الحركة الإسلامية) على استعداد للتضحية بدارفور بكل مكوناتها، بما في ذلك الحركات المسلحة التي تقاتل إلى جانب الجيش حالياً، لتحقيق هذا الهدف بأي ثمن.
خاتمة:
يعكس الهجوم على منطقة الزرق تطورًا خطيرًا في الحرب الدائرة حالياً، حيث يسعى الإسلاميون إلى تحويل الحرب إلى صراع قبلي أو إثني لتعزيز أجندتهم السياسية. هذه التطورات تزيد من تعقيد الوضع الإنساني في دارفور والسودان بشكل عام، وتعرقل فرص السلام والمصالحة الوطنية.
إن استمرار هذه الحرب قد يؤدي إلى تصعيد أكبر في النزاع ويعمق الفجوات بين مختلف المكونات الاجتماعية والقبلية. ومع تصاعد التوترات، تظل الحاجة الملحة لتدخل المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية ضرورية لإيقاف دائرة العنف، وحماية المدنيين، والعمل على إيجاد حلول سلمية تضمن الأمن والاستقرار في السودان، وتحول دون انفجار الأوضاع إلى صراعات أكبر قد تعصف بالبلاد بالكامل.